الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
الفصل الثامن

في إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علة

وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد ، أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول .

أما الإجماع : فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود ، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة ، أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا .

>[1] وأما المعقول : فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه ، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبا ، أو لا يكون واجبا ، فإن كان واجبا فلم يخل عن المقصود ، وإن لم يكن واجبا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود ، فكان المقصود لازما من فعله ظنا ، وإذا كان المقصود لازما في صنعه فالأحكام من صنعه >[2] فكانت لغرض ومقصود ، والغرض إما أن يكون عائدا إلى [ ص: 286 ] الله تعالى أو إلى العباد ، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني .

وأيضا فإن الأحكام مما جاء بها الرسول فكانت رحمة للعالمين ; لقوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة ; لكون التكليف بها محض تعب ونصب .

وأيضا قوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمة لا رحمة لما سبق .

وأيضا قوله - عليه السلام - : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " >[3] ، فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضررا محضا ، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص .

وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد ، فإذا رأينا حكما مشروعا مستلزما لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم ، أو ما لم يظهر لنا ، لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا ، وإلا كان شرع الحكم تعبدا وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره ، فلم يبق إلا أن يكون مشروعا لما ظهر ، [ ص: 287 ] وإذا كان ذلك مظنونا فيجب العمل به ; لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ، ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية .

فمن ذلك ما اشتهر عنهم في زمن عمر من تقدير حد شارب الخمر بثمانين جلدة ; بسبب ظن وقع لهم من قول علي - رضي الله عنه - : " أرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى ، فأرى أن يقام عليه حد المفترين " >[4] ; إقامة للشرب الذي هو مظنة الافتراء مقام الافتراء في حكمه .

ومن ذلك حكمهم في إمامة أبي بكر بالرأي والظن ، وقياسهم العهد على العقد في الإمامة ، ورجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في قتال بني حنيفة حيث امتنعوا من أداء الزكاة ، واتفاقهم على كتبة الصحف وجمع القرآن بين الدفتين بالرأي والظن ، واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والإخوة على وجوه مختلفة .

ومن ذلك ما اشتهر عن آحاد الصحابة من العمل بالظن والرأي من غير نكير عليه .

فمن ذلك قول أبي بكر : " أقول في الكلالة برأيي " وحكمه بالرأي في التسوية في العطاء .

ومن ذلك قول عمر : " أقول في الجد برأيي وأقضي فيه برأيي " وقضى فيه بآراء مختلفة .

وقوله في حديث الجنين : " لولا هذا لقضينا فيه برأينا " .

وتشريكه في المسألة الحمارية لما قيل له : هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة ؟ " .

ومن ذلك ما نقل عن عثمان إنه قال لعمر في بعض الأحكام : " إن اتبعت رأيك فرأيك أشد ، وإن تتبع من قبلك فنعم ذلك الرأي " ، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى ، ولأن عملهم بالرأي مع الاختلاف إما أن يكون مع وجود دليل قاطع [ ص: 288 ] فيما اختلفوا فيه ، أو لا مع وجود دليل قاطع ، لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان المخالف فاسقا والموافق بالسكوت عن الإنكار فاسقا ، ويلزم من ذلك تعميم الفسق بجميع الصحابة ، وهو ممتنع لما سبق من الدلالة على عصمتهم ، فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب .

فإن قيل : لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمقاصد ، وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى >[5] وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود ، أو لا يستلزم ، والأول ممتنع لسبعة عشر وجها :

الأول : أن القائل قائلان : قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى ، وقائل إنها مخلوقة للعبيد ، فمن قال : إنها مخلوقة لله تعالى ، فيلزمه من ذلك أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء . ومن قال : إنها مخلوقة للعبيد ، فإنما كانت مخلوقة لهم بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك ، فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضا لحكمة .

الثاني : أنه لو استلزم فعله للحكمة ، ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس ، وما أوجب تخليد أهل النار في النار لعدم الحكمة في ذلك .

الثالث : أنه لو كان لحكمة ومقصود فعند تحقق الحكمة لا يخلو : إما أن يجب الفعل بحيث لا يمكن عدمه ، أو لا يجب ، فإن كان الأول فيلزم منه أن يصير الباري تعالى مضطرا غير مختار ، وإن لم يجب الفعل فقد أمكن وجوده تارة وعدمه تارة ، وعند ذلك إما أن يترجح أحد الممكنين على الآخر لمقصود أو لا لمقصود .

فإن كان الأول : فالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع .

وإن كان الثاني : فهو المطلوب .

الرابع : أنه لو كان صنع الرب تعالى يستلزم الغرض والمقصود ، فذلك المقصود إما أن يكون حادثا أو قديما ، فإن كان قديما فيلزم منه قدم الصنع والمصنوع وهو محال ، وإن كان حادثا فإما أن يتوقف حدوثه على مقصود آخر أو لا يتوقف ، فالأول يلزم منه التسلسل والثاني هو المطلوب .

[ ص: 289 ] الخامس : أنه تعالى قد كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن كأبي جهل وغيره ، وذلك مما يستحيل معه الإيمان وإلا كان علمه جهلا ، والتكليف بما لا يمكن وقوعه على وجه يعاقب المكلف على عدم فعله مجرد عن الغرض والحكمة .

السادس : أن حكم الله هو كلامه وخطابه ، وكلامه وخطابه قديم ، والمقصود لا جائز أن يكون قديما وإلا لزم منه موجود قديم غير الباري تعالى وصفاته وهو محال ، وإن كان حادثا فيلزم منه تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع .

السابع : أن خلق الباري تعالى للعالم في وقته المعلوم المحدود من جواز خلقه قبله أو بعده ، وتقديره بشكله المقدر مع جواز أن يكون أصغر أو أكبر مما لا يوقف منه على غرض ومقصود .

الثامن : أنه لو كان له في فعله غرض ومقصود لم يخل : إما أن يكون فعله لذلك الغرض أولى من تركه أو لا يكون أولى ، فإن كان الأول فيلزمه منه أن يكون الرب تعالى مستكملا بذلك الصنع وناقصا قبله وهو محال ، وإن لم يكن فعله أولى من الترك امتنع الفعل لعدم الأولوية .

التاسع : أن الحكم والمقاصد خفية ، وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حق المكلف باطلاعه عليها بالبحث عنها ، والحرج منفي بقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .

العاشر : أن وجود الحكمة مما يجب تأخره عن وجود شرع الحكم ، وما يكون متأخرا في الوجود يمتنع أن يكون علة لما هو متقدم عليه .

الحادي عشر : أنه لو كان شرع الأحكام للحكم لكانت مفيدة لها قطعا ، وذلك لأن الله تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعا ، فلو فعل ما فعله قصدا لتحصيل تلك الحكمة لكان الظاهر منه أنه فعله على وجه تحصل الحكمة به قطعا ، وأكثر الأحكام من الزواجر غير مفيدة لما ظن أنها حكم لها قطعا .

الثاني عشر : أنه لا يخلو إما أن يكون الرب تعالى قادرا على تحصيل تلك الحكمة الحاصلة من شرع الحكم دون شرع الحكم ، أو لا يكون قادرا عليه ، لا جائز أن لا يكون قادرا ; إذ هو صفة نقص والنقص على الله محال ، وإن كان قادرا على ذلك فشرع الحكم وتوسطه في البين لا يكون مفيدا بل هو محض عناء وتعب .

[ ص: 290 ] الثالث عشر : أن خلق الكافر شقيا في الدنيا مخلدا في العذاب في الأخرى مما لا حكمة فيه ولا مقصود .

الرابع عشر : أن الله تعالى قد أوجب على المكلف معرفته ، وذلك إما أن لا يكون على العارف به ، أو على غير العارف .

الأول : فيه تحصيل الحاصل ، والثاني : يلزم منه المحال ، حيث أوجب معرفته على من لا يعرفه مع توقف معرفة إيجابه على معرفة ذاته وهو دور ولا مصلحة في شيء من ذلك .

الخامس عشر : أن الله تعالى قد أقدر العباد على المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش ، وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم من ذلك ، ولم يفعل شيئا من ذلك ، وذلك مما لا حكمة فيه .

السادس عشر : أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضرر والرب تعالى منزه عن ذلك .

السابع عشر : أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثا ، والرب يتعالى عن ذلك لكونه متصرفا في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل ، على ما قال تعالى : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وإن لم يكن فعله مستلزما للحكمة فهو المطلوب .

سلمنا استلزام شرع الحكم للحكمة ، ولكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علة ، ولو كان يدل المناسب على كونه علة لكانت أجزاء العلة المناسبة عللا ، بل غايته أن تكون جزء علة ، ولا يلزم من وجود جزء العلة في الفرع وجود الحكم .

سلمنا غلبة الظن بكون ما ظهر من المناسب علة ، ولكن لا نسلم وجوب العمل بالظن مطلقا لما سنبينه في مسألة كون القياس حجة ، وما ذكرتموه من الدلائل فسيأتي الكلام عليها أيضا في مسألة كون القياس حجة .

والجواب عما ذكروه من المنع ما سبق تقريره >[6] وعن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه :

الأول : أن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير ، والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء .



>[7] [ ص: 291 ] الثاني : وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقا حتى يطرد ذلك في كل مخلوق ، بل إنما ندعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه ، وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي >[8] ولا ندعي ذلك قطعا بل ظاهرا .

الثالث : وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقا ، ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعا ; لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى .

وبهذين الجوابين الأخيرين يكون جواب الثانية .

وعن الثالثة : أن وجود الفعل وإن قدر تحقق الحكمة غير واجب ، بل هو تبع لتعلق القدرة والإرادة به ، ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختارا .

وعن الرابعة : أن المقصود حادث ، ولكن لا يفتقر إلى مقصود آخر إنما ندعي ذلك فيما هو ممكن ، وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع ، وإن كان مفتقرا إلى مقصود فذلك المقصود هو نفسه لا غيره فلا تسلسل .

[ ص: 292 ] وعن الخامسة : أنا لا ندعي لزوم المقصود في كل فعل ليلزمنا ما قيل ، وإن كان ذلك لازما فلا يمتنع أن يكون ذلك لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها كما بيناه في التكليف بما لا يطاق .

وعن السادسة : أن الحكم ليس هو نفس الكلام القديم كما سبق تقريره ، بل الكلام بصفة التعلق فكان حادثا>[9] وإن كان الحكم قديما ، والمقصود حادثا ، فإنما يمتنع تعليله به أن لو كان موجبا للحكم وليس كذلك >[10] ، بل إما بمعنى الأمارة والعلامة عند من يقول بذلك ، والحادث لا يمتنع أن يكون أمارة على القديم ، وإما بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضا أن يكون متأخرا ، ويكون حكم الله القديم بما حكم به لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث .

وعن السابعة : بمنع انتفاء الحكمة فيما قيل ، وإن لم تكن معلومة لنا .

وعن الثامنة : أن فعله لذلك الغرض أولى من تركه ، لكن بالنظر إلى المخلوق دون الخالق .

وعن التاسعة : أنه لا حرج في ربط الأحكام بالحكم إذا كانت منضبطة بأنفسها أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها ; لعدم العسر في معرفتها ، وإن كان في ذلك نوع عسر وحرج يكد العقل في الاجتهاد فيها فلا نسلم خلو ذلك عن المقصود ، وهو زيادة الثواب على ما قال - عليه السلام - : " ثوابك على قدر نصبك " .

>[11] [ ص: 293 ] وعن العاشرة : أن الحكمة وإن كانت متأخرة في الوجود عن شرع الحكم فإنما يمتنع أن تكون علة بمعنى المؤثر لا بمعنى الباعث .

>[12] وعن الحادية عشرة : أنه لا يمتنع أن تكون الحكمة المقصودة من شرع الحكم إنما هو حصول الحكمة ظاهرا لا قطعا .

وعن الثانية عشرة : أنه لا يمتنع على بعض آراء المعتزلة أن يقال بأن الرب تعالى غير قادر على تحصيل ذلك الغرض الخاص من شرع ذلك الحكم دون شرعه ، ولا يلزم منه العجز ; ضرورة كونه غير ممكن ، وإن قدر أنه قادر على ذلك وهو الحق فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به ، وإن قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر .

وعن الثالثة عشرة : أن الحكمة فيما ذكروه إما أن تكون ممتنعة أو جائزة .

فإن كان الأول ، فلا يلزم امتناعها فيما هي ممكنة فيه .

وإن كان الثاني ، فلا مانع من وجودها وإن لم نطلع نحن عليها .

وهو الجواب عن الرابعة عشرة .

كيف وأنه إنما يلزم الدور الممتنع أن لو قيل بتوقف الوجوب على معرفة المكلف للوجوب ، وليس كذلك على ما سبق تقريره في شكر المنعم .

وعن الخامسة عشرة : ما هو جواب الشبهتين قبلها .

وعن السادسة عشرة : بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعا ، بل واقعا في الغالب .

وعن السابعة عشرة : أن ما ذكروه إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك >[13] على ما حققناه في كتبنا الكلامية .

[ ص: 294 ] قولهم : لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علة .

قلنا : لا يلزم أن يكون علة قطعا ، وإنما يلزم أن يكون علة ظاهرا ; ضرورة أنه لا بد للحكم من علة ظاهرة على ما سبق تقريره ولا ظاهر سواه .

وأما أجزاء العلة ، وإن كانت مناسبة فإنما يمتنع التعليل بكل واحد منها لما سبق من امتناع الحكم الواحد في محل واحد بعلل ، بخلاف ما إذا اتحد الوصف أو تعدد وكانت العلة مجموع الأوصاف .

قولهم : لا نسلم وجوب العمل بذلك وإن كان مظنونا .

قلنا : دليله ما ذكرناه وما سيأتي في مسألة إثبات القياس على منكريه .

وما يذكرونه على ذلك فسيأتي جوابه ثم أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية