[ ص: 77 ] الاعتراض الخامس ،
التقسيم >[1] وهو في عرف الفقهاء : عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين ، أحدهما ممنوع ، والآخر مسلم غير أن المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إما أنه لا بد من ترديده بين احتمالين لأنه
>[2] . لو لم يكن محتملا لأمرين لم يكن للترديد والتقسيم معنى ، بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه .
وإما أنه لا بد وأن يكون احتمال اللفظ لهما على السوية لأنه
>[3] لو كان ظاهرا في أحدهما لم يكن للتقسيم أيضا وجه ، بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه ، كان ممنوعا أو مسلما .
وذلك كما لو قال المستدل في البيع بشرط الخيار ، وجد سبب ثبوت الملك للمشتري ، فوجب أن يثبت وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل في المحل ، فقال المعترض : السبب هو مطلق بيع أو البيع المطلق ؛ أي : الذي لا شرط فيه ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده .
ولقائل أن يقول : التقسيم وإن كان من شرطه تردد اللفظ بين احتمالين على السوية ، فليس من شرطه أن يكون أحد الاحتمالين ممنوعا والآخر مسلما ، بل كما يجوز أن يكون كذلك يجوز أن يشترك الاحتمالان في التسليم ولكن بشرط أن يختلفا باعتبار ما يرد على كل واحد منهما من الاعتراضات القادحة فيه ، وإلا فلو اتحدا فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع التساوي في التسليم لم يكن للتقسيم معنى ، بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختص به .
ولا خلاف أنهما لو اشتركا في المنع أن التقسيم لا يكون مفيدا .
[ ص: 78 ] وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه ، فيكفيه بيان إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين من غير تكليف بيان التساوي بينهما في دلالة اللفظ عليهما بجهة التفصيل ؛ لأن ذلك مما يعسر من جهة أن ما من وجه
>[4] يبين التساوي فيه إلا وللمستدل أن يقول : ولم قلت بعدم التفاوت من وجه آخر ؟ بلى لو قيل إنه يكلف التساوي بينهما من جهة الإجمال ، وهو أن يقول : التفاوت يستدعي ترجح أحدهما على الآخر وزيادته عليه ، والأصل عدم تلك الزيادة ؛ لم يكن ذلك شاقا وكان وافيا بالدلالة على شرط التقسيم .
ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الالتجاء إلى
الحرم : وجد سبب استيفاء القصاص ، فيجب استيفاؤه وبين وجود السبب بالقتل العمد العدوان ، فقال المعترض : متى يمكن القول بالاستيفاء ؟ إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم .
ولكن لم قلت إنه لم يوجد ، وبيان وجوده أن الحرم مانع ، وبينه بطريقة لم يخل ،
>[5] إما أن يورد ذلك بناء على أن لفظ المستدل متردد بين الاحتمالين المذكورين أو على دعواه الملازمة بين الحكم ودليله ، فإن كان الأول : فهو باطل لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين ، وإن كان الثاني : فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع ، فهو غير مقبول لما تقرر في الاصطلاح من حط مئونة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها ، وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض ؛ فحاصل السؤال يرجع إلى المعارضة ولا حاجة إلى التقسيم ، وإذا اتجه سؤال التقسيم على التفسير الأول ، فجوابه من جهة الجدل من ستة أوجه :
الأول : أن يعين المستدل بعض محامل لفظه ، ويبين أن اللفظ موضوع بإزائه حقيقة في لغة العرب ، إما بالنقل عن أهل الوضع أو الشارع الصادق .
[ ص: 79 ] أو ببيان كونه مشهورا به في الاستعمال ، فيكون حقيقة ؛ لأنه الغالب ، وبما يساعد من الأدلة ، ومع بيان ذلك فالتقسيم يكون مردودا لتبين فوات شرطه من التساوي في الدلالة .
الثاني : أن يقول : إنه وإن لم يكن ظاهرا بحكم الوضع فيما عينته من الاحتمال غير أنه ظاهر بعرف الاستعمال ، كما في لفظ الغائط ونحوه .
الثالث : أنه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين إلا أنه ظاهر في عرف الشرع كلفظ الصلاة والصوم ونحوه .
الرابع : أنه وإن تعذر كونه ظاهرا بأحد الأنحاء المذكورة ، لكنه ظاهر بحكم ما اقترن به من القرائن المساعدة له في كل مسألة .
الخامس : أنه وإن تعذر بيان الظهورية بأحد الطرق المفصلة ، فله دفع التقسيم بوجه إجمالي ، وهو أن يقول : الإجمال على خلاف الأصل ، فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ؛ ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ ، ومع ذلك فالتقسيم لا يكون واردا .
وقد يقدر على بيان كون اللفظ ظاهرا فيما عينه بهذا الطريق الإجمالي وهو أن يقول : إذا ثبت أنه لا بد وأن يكون اللفظ ظاهرا في بعض محامله ، نفيا للإجمال عن الكلام ، فيجب اعتقاد ظهوره فيما عينه المستدل ، ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما عداه ، أما عند المعترض فلضرورة دعواه الإجمال في اللفظ .
وأما عند المستدل ، فلضرورة دعواه أنه ظاهر فيما ادعاه دون غيره .
السادس : أن يبين أن اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرض له المعترض بالمنع والتسليم ، وأنه مراده إلا أن يحترز المعترض عن ذلك بأن يعين مجملا ، ويقول : إن أردت هذا فمسلم ، ولكن لم قلت ببناء الغرض عليه ، وإن أردت ما عداه فممنوع .
فما مثل هذا الجواب لا يكون متجها ، وإن أراد المستدل الجواب الفقهي فإن كان قادرا على تنزيل كلامه على أحد القسمين ، فالأولى في الاصطلاح تنزيله على أحدهما ؛ حذرا من التطويل ، وليكن منزلا على أسهلهما في التمشية والقرب إلى المقصود إن أمكن ، وإن كان الجمع جائزا شرعا .
وإن لم يقدر على شيء من ذلك كان منقطعا .
[ ص: 80 ] وأما
موقع سؤال التقسيم ، فيجب أن يكون بعد منع حكم الأصل لكونه متعلقا بالوصف المتفرع عن حكم الأصل ، وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد .
وأن يكون مقدما على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعي علة لكونه مشعرا بترديد لفظ المستدل بين أمرين ، والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولا للفظ لا غير
>[6] ضرورة تخصيصه بالكلام عليه ، وإلا كان التخصيص به غير مفيد ، وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتحاد المدلول يكون متناقضا .
وقد علل ذلك بعض أرباب الاصطلاح بأن المطالبة بتأثير الوصف تستدعي تسليم وجود الوصف ، والتقسيم مشتمل على منع الوجود ، ومنع الوجود بعد تسليم الوجود لا يكون مقبولا لما فيه من التناقض ، وهو غير صحيح لوجهين :
الأول : أن ما ذكره إنما هو مبني على أن أحد القسمين لا بد وأن يكون ممنوع الوجود ، وليس كذلك لما سبق في مبدأ السؤال .
>[7] وبتقدير أن يكون أحد القسمين ممنوع الوجود فإنما يلزم التناقض والمنع بعد التسليم ، أن لو كان ما أورد عليه سؤال المطالبة أو لا هو نفس القسم الذي منع وجوده في التقسيم ، وبتقدير أن يكون غيره ، فلا .
وبالجملة فيمتنع أيضا قبول سؤال التقسيم بعد سؤال الاستفسار ؛ لأن المسئول إن كان قد دفع سؤال الاستفسار جدلا بنفي الإجمال ، فالتقسيم بعده لا يرد ضرورة توقفه على الإجمال وقد انتفى ، وإن أجاب عنه بتعيين ما بكلامه ، فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم بل يجب ورود الاعتراض على عينه
>[8] دون غيره .