[ ص: 105 ] المسألة الرابعة
إذا كان
وقت الواجب فاضلا عنه ، كصلاة الظهر مثلا .
فمذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء وجماعة من
المعتزلة كالجبائي وابنه وغيرهما : أنه واجب موسع ، وأن جميع أجزاء ذلك الوقت وقت لأداء ذلك الواجب فيه ، فيما يرجع إلى سقوط الفرض به وحصول مصلحة الوجوب .
وهل للواجب في أول الوقت ووسطه بتقدير تأخير الواجب عنه إلى ما بعده بدل ؟
اختلف هؤلاء فيه : فأثبته أصحابنا
والجبائي وابنه ، وهو العزم على الفعل ، وأنكره بعض
المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره .
وقال قوم : وقت الوجوب هو أول الوقت وفعل الواجب بعد ذلك يكون قضاء .
وقال بعض أصحاب
أبي حنيفة : وقت الوجوب هو آخر الوقت ، لكن اختلفوا في وقوع الفعل قبل ذلك :
فمنهم من قال : هو نفل يسقط به الفرض .
ومنهم من قال
كالكرخي : إن المكلف إذا بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت كان ما فعله واجبا وإلا فنفل .
وحكي عنه أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان .
حجة القائلين بالوجوب الموسع أن الأمر بصلاة الظهر وهو قوله تعالى : (
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) عام لجميع أجزاء الوقت المذكور ، وليس المراد به تطبيق أول فعل الصلاة على أول الوقت وآخره على آخره ، ولا إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته حتى لا يخلو جزء منه عن صلاة ; إذ هو
>[1] خلاف الإجماع ، ولا يتعين جزء منه لاختصاصه بوقوع الواجب فيه ; إذ لا دلالة للفظ عليه ، فلم يبق إلا أنه أراد به أن كل جزء منه صالح لوقوع الواجب فيه ، ويكون المكلف مخيرا في إيقاع الفعل في أي جزء شاء منه ضرورة امتناع قسم آخر وهو المطلوب .
[ ص: 106 ] ويدل على إرادة هذا حصول الإجزاء عن الواجب بأداء الصلاة في أي وقت قدر منه ، فإنه يدل على حصول مقصود الواجب من الكل ، وأن الفعل في كل وقت قائم مقامه في غيره من الأوقات فيكون واجبا وإلا فلو لم يكن محصلا لمقصود الواجب فيلزم منه إما فوات مصلحة الواجب بتقدير فعل الصلاة في غير وقت الوجوب ، فتكون الصلاة حراما لكونها مفوتة لمصلحة الواجب وهو محال ، وإما بقاء مصلحة الوجوب ويلزم منه وجوب فعل الصلاة لبقاء مقصودها الموجب لها بعد فعل الصلاة في الوقت المفروض ، وهو خلاف الإجماع .
فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مطلوبكم ، وذلك أنه لو كان الفعل واجبا في أول الوقت أو وسطه لما جاز تركه مع القدرة عليه ; إذ هو حقيقة الواجب ، وإنما يتحقق ذلك بالنسبة إلى آخر الوقت لانعقاد الإجماع على لحوق الإثم بتركه فيه بتقدير عدم فعله قبله ، وأما قبل ذلك فالفعل فيه ندب لكونه مثابا مع جواز تركه ، ويسقط الفرض به في آخر الوقت ولا يمتنع سقوط الفرض عن المكلف بفعل ما ليس بفرض كالزكاة المعجلة قبل الحول .
سلمنا أنه ليس بنفل ، ولكن ما المانع من القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل أو تعيين الوقت الأول للوجوب وما بعده قضاء ، أو الحكم بكونه واجبا بتقدير بقائه بصفة المكلفين إلى آخر الوقت كما قيل من المذاهب السابقة .
والجواب عن جواز ترك الفعل في أول الوقت أنه لا يدل على عدم الوجوب مطلقا ، بل على عدم الوجوب المضيق ، وأما الموسع فلا .
والفرق بين المندوب والواجب الموسع جواز ترك المندوب مطلقا والموسع بشرط الفعل بعده في الوقت الموسع ، وحاصله راجع إلى أن الواجب على المكلف إيقاع الفعل في أي وقت شاء من أجزاء ذلك الوقت الموسع على طريق الإبهام ، والتعيين إلى المكلف كما سبق في خصال الكفارة ، أو بشرط العزم على الفعل بعده ، ثم لو كان نفلا لما سقط به الفرض لما سبق ، والزكاة المعجلة واجبة
[ ص: 107 ] مؤجلة بعد
>[2] انعقاد سببها وهو ملك النصاب لا أنها نافلة ، ولكان
>[3] ينبغي أن تصح الصلاة بنية النفل ، وليس كذلك .
فإن قيل
>[4] : لو كان العزم بدلا عن الفعل في أول الوقت لما وجب الفعل بعده ، ولما جاز المصير إليه مع القدرة على المبدل كسائر الأبدال مع مبدلاتها ، ولكان من أخر الصلاة عن أول الوقت مع الغفلة عن العزم يكون عاصيا لكونه تاركا للأصل وبدله ، كيف وأن الأمر الوارد بإيجاب الصلاة في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم ، فإيجابه يكون زيادة على مقتضى الأمر . ثم جعل العزم بدلا من صفة الفعل أو عن أصل الفعل مع أنه من أفعال القلوب بعيد ; إذ لا عهد لنا في الشرع بجعل أفعال القلوب أبدالا عن الأفعال ، ولا بجعل صفة الفعل مبدلا .
قلنا : لم يكن بدلا عن أصل الفعل بل عن تقديم الفعل ، فلا يكون موجبا لسقوط الفعل مطلقا ، ومعنى كونه بدلا أنه مخير بينه وبين تقديم الفعل والمصير إلى أحد المخيرين غير مشروط بالعجز عن الآخر ، لا أنه من باب الوضوء مع التيمم وإنما لم يعص مع كونه غافلا لعدم تكليف الغافل ، والأمر وإن لم يكن متعرضا للعزم فلا يلزم منه امتناع جعله بدلا ، فإنه لا يلزم من انتفاء بعض المدارك انتفاء الكل .
وأما استبعاد كون العزم بدلا عن صفة الفعل على ما ذكروه فغير مستحق للجواب ، ثم كيف يستبعد ذلك والفدية في حق الحامل عند خوفها على جنينها ، وكذلك المرضع على ولدها بدل عن تقديم الصوم في حقها ، وهو صفة الفعل . وكذلك الندم توبة ، وهو من أعمال القلوب . وقد جعل بدلا عما فرط من أفعال الطاعات الواجبة حالة الكفر الأصلي .
والجواب
>[5] عن القول بتعيين وقت الوجوب بالفعل : أنه إن أريد به أنا نتبين سقوط الفرض بالفعل في ذلك الوقت فهو مسلم ، ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه ،
[ ص: 108 ] وإن أرادوا به أنا نتبين أن غير ذلك الوقت لم يكن وقتا للوجوب ، بمعنى أنه لو أدى فيه الفعل لم يقع الموقع ، فهو خلاف الإجماع ، وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره .
وعن القول بتعين الوقت الأول للوجوب وما بعده للقضاء فيما
>[6] سبق .
>[7] ، كيف وأن الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء ولا يصح بنية القضاء .
وعن الوقت
>[8] أنه خلاف الإجماع من السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت ومات في أثنائه أنه أدى فرض الله ، وأثبت ثواب الواجب ، وعلى ما حققناه من الوجوب الموسع لو أخر المكلف الصلاة عن أول الوقت بشرط العزم ومات لم يلق الله عاصيا ; نظرا إلى إجماع السلف على ذلك ، وليس يلزم من ذلك إبطال معنى الوجوب حيث إنه لا يجوز تركه مطلقا ، بل بشرط العزم على ما تقدم ، ولا يمكن أن يقال : جواز التأخير مشروط بسلامة العاقبة لكونها
>[9] منطوية عنه ، ولا بد من الحكم الجازم في هذه الحال : إما البعضية وهو خلاف الإجماع ، وإما بنفيها ضرورة
>[10] امتناع التوقف على ظهور العاقبة بالإجماع من سلف الأمة ، وإذا عرف معنى الواجب الموسع ففعله في وقته أول مرة يسمى أداء ، وسواء كان فعله على نوع من الخلل لعذر أو لا على نوع من الخلل ، وإن فعل على نوع من الخلل لعذر ، ثم فعل في ذلك الوقت مرة ثانية سمي إعادة وإن لم يفعل في وقته المقدر ، وسواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر ، ثم فعل بعد خروج وقته سمي قضاء .
>[11]