الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 197 ] المسألة السادسة

اتفقوا في الأدلة العقلية المتقابلة بالنفي والإثبات على استحالة التعادل بينها .

وذلك لأن دلالة الدليل العقلي يجب أن يكون مدلولها حاصلا >[1] ، فلو تعادل الدليلان في نفسيهما لزم من ذلك حصول مدلوليهما كالدليل الدال على حدوث العالم والدال على قدمه ، ويلزم من ذلك اجتماع النقيضين وهو محال .

واختلفوا في تعادل الأمارات الظنية .

فذهب أحمد بن حنبل والكرخي إلى المنع من ذلك .

وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وابنه >[2] ، وأكثر الفقهاء إلى جوازه وهو المختار ، وذلك لأنه لو استحال تعادل الأمارتين في نفسيهما فإما أن يكون ذلك محالا في ذاته ، أو لدليل خارج ، الأول ممتنع ; فإنا لو قدرنا ذلك لم يلزم عنه لذاته محال عقلا >[3] ، وإن كان الدليل من خارج عقليا كان أو شرعيا فالأصل عدمه ، وعلى مدعيه بيانه .

>[4] [ ص: 198 ] فإن قيل >[5] : إذا قيل بتعادل الأمارتين فإما أن يعمل بكل واحدة منهما ، أو بأحديهما دون الأخرى ، أو لا يعمل ولا بواحدة منهما .

الأول : محال لما فيه من الجمع بين النقيضين ، والثاني : محال لأنه إما أن يعمل بواحدة منهما على طريق التعيين أو الإبهام ، فإن كان على طريق التعيين فلا أولوية مع التساوي ، وإن كان على سبيل التخيير فهو ممتنع لوجوه ثلاثة :

الأول : أن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلفين في مسائل الاجتهاد .

الثاني : أن التخيير إباحة للفعل والترك ، وهو عمل بأمارة الإباحة وهو ممتنع ; لما سبق .

الثالث : أنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للمتخاصمين ، وكذلك المفتي للعامي بين الحكم ونقيضه ، وأن يحكم لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه ، وأن يحكم في يوم بحكم وفي الغد بنقيضه ، وذلك محال ، والثالث أيضا محال ; لما فيه من الجمع بين النقيضين >[6] ، ولأن وضع الأمارتين يكون عبثا ، والعبث في تصرفات الشارع ممتنع .

وأيضا فإن الحكم عند الله تعالى في الواقعة لا يكون إلا واحدا على ما سبق تقريره في المسألة المتقدمة ، . . . وهو الذي وقع عليه اختياركم ، فلو تعادلت الأمارتان لزم من ذلك التضليل والحيرة في إصابة الحق ، وهو ممتنع على الشارع الحكيم .

والجواب عن الشبهة الأولى بمنع الحصر فيما ذكروه ; إذ قد أمكن قسم ثالث >[7] وهو العمل بمجموعهما بأن يكونا كالدليل الواحد ، ومقتضاهما الوقف أو التخيير . [ ص: 199 ] وإن سلمنا امتناع ذلك ، فما المانع من العمل بإحداهما على طريق التخيير بأن يعمل المكلف بما شاء منهما ، إن شاء أثبت وإن شاء نفى .

قولهم : إن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلف في مسائل الاجتهاد .

قلنا : متى إذا ترجح في نظره إحدى الأمارتين أو إذا تعادلتا ؟ .

الأول : مسلم ، والثاني : ممنوع ، ولا بعد في التخيير عند التعارض مع التساوي نازلا منزلة ورود التخيير من الشارع بلفظ التخيير ، كما في خصال الكفارة ، أو كما في التخيير بين إخراج الحقاق وبنات اللبون عند ما إذا اجتمع في ماله مائتان من الإبل بقوله عليه السلام : " في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة " >[8] ، فإنه إن أخرج أربع حقاق فقد عمل بالنص ، وإن أخرج خمس بنات لبون فقد عمل بالنص .

قولهم : إن التخيير إباحة للفعل والترك ، وهو عمل بأمارة الإباحة ، وترك لأمارة الوجوب .

قلنا : إنما يلزم ذلك أن لو كان التخيير بين الفعل والترك مطلقا ، وليس كذلك ، وإنما هو تخيير في العمل بأحد الحكمين مشروطا بقصد العمل بدليله ، كما في التخيير بين القصر في السفر والإتمام بشرط قصد العمل بدليل الرخصة أو دليل الإتمام .

قولهم : إنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للخصمين ، والمفتي للعامي بين الحكمين المتناقضين ، ليس كذلك بل التخيير إنما هو للحاكم والمفتي في العمل بإحدى الأمارتين عند الحكم والفتوى ، فلا بد من تعين ما اختاره دفعا للنزاع بين الخصوم ، وللتحير عن المستفتى .

وأما حكمه لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه ، فغير ممتنع كما لو تغير اجتهاده ، وكذلك الحكم في يوم وبنقيضه في الغد ، وإنما يمتنع ذلك أن لو كان المحكوم عليه واحدا ; لما فيه من إضرار المحكوم عليه بالحكم له بحل النكاح ، والانتفاع بالملك في وقت وتحريمه عليه في وقت آخر ، وإن سلمنا امتناع التخيير فما المانع من ترك العمل بهما والقول بتساقطهما .

قولهم : إنه يلزم منه الجمع بين النقيضين . . . إنما يلزم ذلك أن لو اعتقد نفي الحل والإباحة ، وأما إذا لم يعتقد شيئا من ذلك فلا .

[ ص: 200 ] قولهم : إن وضع الأمارتين يكون عبثا فهو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى ، وقد أبطلناه في مواضعه >[9] ، وبتقدير التسليم فلا يمتنع استلزام ذلك لحكمة استأثر الله تعالى بالعلم بها دون المخلوقين .

كيف وقد أمكن أن تكون الحكمة فيه إيقاف عن الجزم بالنفي أو الإثبات .

وعن الثانية : أنا وإن سلمنا أن الحكم في المسألة لا يكون إلا واحدا ، ولكن ما المانع من تعادل الأمارات .

>[10] قولهم : يلزم منه التحير والتضليل ، إنما يلزم ذلك أن لو كان مكلفا بإصابة ما هو الحكم عند الله تعالى ، وليس كذلك ، وإنما هو مكلف بما أوجبه ظنه على ما سبق ، فإن لم يغلب على ظنه شيء ضرورة التعادل كان الواجب التخيير ، أو التوقف ، أو التساقط .

>[11]

التالي السابق


الخدمات العلمية