وأما
الترجيحات العائدة إلى صفة العلة :
فالأول منها : أنه إذا كانت علة الأصل في أحد القياسين حكما شرعيا ، وفي الآخر وصفا حقيقيا ، فما علته وصف حقيقي أولى لوقوع الاتفاق عليه ، ووقوع الخلاف في مقابله ، فكانت أغلب على الظن .
الثاني : أن تكون علة الحكم الثبوتي في أحدهما وصفا وجوديا وفي الآخر وصفا عدميا ، فما علته ثبوتية أولى للاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله .
الثالث : أن تكون علة أحدهما بمعنى الباعث ، وفي الآخر بمعنى الأمارة ، فما علته باعثة أولى للاتفاق عليه .
الرابع : أن تكون علة أحدهما وصفا ظاهرا منضبطا وفي الآخر بخلافه ، فما علته مضبوطة أولى ؛ لأنه أغلب على الظن لظهوره ولبعده عن الخلاف .
الخامس : أن تكون علة أحدهما وصفا متحدا وفي الآخر ذات أوصاف ، فما علته ذات وصف واحد أولى ؛ لأنه أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخلاف .
السادس : أن تكون علة أحدهما أكثر تعدية من علة الآخر ، فهو أولى لكثرة فائدته .
[ ص: 274 ] السابع : أن تكون علة أحدهما مطردة بخلاف الآخر ، فما علته مطردة أولى لسلامتها عن المفسد وبعدها عن الخلاف . وفي معنى هذا أن تكون علة أحدهما غير منكسرة بخلاف علة الآخر ، فما علته غير منكسرة أولى لبعدها عن الخلاف .
الثامن : أن تكون علة أحدهما منعكسة بخلاف علة الآخر ، فما علته منعكسة أولى ؛ لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف .
التاسع : أن تكون علة أحدهما غير متأخرة عن الحكم بخلاف الآخر ، فما علته غير متأخرة أولى لبعده عن الخلاف .
العاشر : أن تكون علة أحدهما غير منعكسة وعلة الآخر منعكسة غير مطردة ، فالمطردة أولى ؛ لما بيناه من اشتراط الاطراد وعدم اشتراط الانعكاس ، ولهذا فإن من سلم اشتراط الاطراد خالف في اشتراط الانعكاس .
الحادي عشر : أن يكون ضابط الحكمة في علة أحد القياسين جامعا للحكمة مانعا لها ، بخلاف ضابط حكمة العلة في القياس الآخر كما بيناه ، فالجامع المانع أولى لزيادة ضبطه وبعده عن الخلاف .
الثاني عشر : أن تكون العلة في أحدهما غير راجعة على الحكم الذي استنبطت منه برفعه أو رفع بعضه بخلاف الآخر ، فهو أولى لسلامة علته عما يوهيها وبعدها عن الخلاف .
الثالث عشر : أن تكون علة أحد القياسين مناسبة وعلة الآخر شبهية ، فما علته مناسبة أولى لزيادة غلبة الظن بها وزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف .
الرابع عشر : أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من قبل ، والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري ، فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ، ولهذا فإنه لم تخل شريعة عن مراعاته ، وبولغ في حفظه بشرع أبلغ العقوبات .
الخامس عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين من الحاجات الزائدة ومقصود الأخرى من باب التحسينات والتزيينات ، فما مقصوده من باب الحاجات الزائدة أولى لتعلق الحاجة به دون مقابله .
[ ص: 275 ] السادس عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين من مكملات المصالح الضرورية ، ومقصود الأخرى من أصول الحاجات الزائدة ، فما مقصوده من مكملات الضروريات وإن كان تابعا لها ومقابله أصل في نفسه يكون أولى ؛ ولهذا أعطي حكم أصله حتى شرع في شرب قليل الخمر ما شرع في كثيره .
السابع عشر : أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية
>[1] ، فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين ، وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصودا من أجله على ما قال تعالى : (
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )
فإن قيل : بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح ، وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي ، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشح والمضايقة ، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه ، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته ، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد ، وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمدا عدوانا نقتله قصاصا لا بكفره .
وأيضا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين ، حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم ، وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم ، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق ، وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال ، ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح .
قلنا : أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام ، فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر ، ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف
[ ص: 276 ] بما يفضي إلى تفويتها ، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله .
كيف وأن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق ، والقتل إنما هو لتحقيق الوعيد به ، والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام ، ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف ، فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما .
كيف وأن تقديم حق الآدمي هاهنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقا ؛ لبقاء العقوبة الأخروية ، وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبات البدنية مطلقا ، فكان ذلك أولى .
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه ، وفروع أصل غير أصل الشيء ، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر ، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح ، فالمقصود لا يختلف .
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا ، بل يفوت إلى خلف وهو القضاء ، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا ، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ؛ ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده ، وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره .
وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات ، فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدما على غيره من المقاصد الضرورية .
أما بالنظر إلى حفظ النسب ؛ فلأن حفظ النسب إنما كان مقصودا لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعا لا مربي له ، فلم يكن مطلوبا لعينه ( بل لإفضائه إلى النفس ، وأما بالنظر إلى المال ، فلهذا المعنى أيضا فإنه فلم يكن بقاؤه مطلوبا لعينه ) وذاته ، بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات .
وأما بالنظر إلى حفظ العقل فمن جهة أن النفس أصل والعقل تبع ، فالمحافظة على الأصل أولى ، ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا ، وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقا .
[ ص: 277 ] فالمحافظة بالمنع مما يفضي إلى الفوات مطلقا أولى ، وعلى هذا أيضا يكون المقصود في
حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل والمال لكونه عائدا إلى حفظ النفس ، وما يفضي إلى
حفظ العقل مقدم على ما يفضي إلى حفظ المال ؛ لكونه مركب الأمانة وملاك التكليف ومطلوبا للعبادة بنفسه من غير واسطة ولا كذلك المال ، ولهذا كانت هذه الرتب مختلفة في العقوبات المرتبة عليها على نحو اختلافها في أنفسها ، وبمثل تفاوت هذه الرتب يكون التفاوت بين مكملاتها .
الثامن عشر : أن يكون الوصف الجامع في أحد القياسين نفس علة حكم الأصل والآخر دليل علة الأصل وملازمها ، فالذي فيه الجامع نفس العلة أولى لظهورها وركون النفس إليها .
التاسع عشر : أن تكون علة الأصل في أحد القياسين ملائمة وعلة الآخر غريبة ، فما علته ملائمة أولى ؛ لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف .
العشرون : أن تكون علة الأصلين منقوضة إلا أنه قد ظهر في صورة النقض في أحدهما ما يمكن عليه إحالة النقض من وجود مانع أو فوات شرط بخلاف الأخرى ، فهي أولى ؛ لأنها أغلب على الظن .
الحادي والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين قد يتخلف عنها مدلولها في صورة بطريق الاستثناء على خلاف القاعدة العامة والأخرى يتخلف عنها حكمها لا على جهة الاستثناء ، فالتي يتخلف عنها حكمها بجهة الاستثناء تكون أولى لقربها إلى الصحة وبعدها عن الخلاف .
الثاني والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين قد خلفها في صورة النقض ما هو أليق بها لكون مناسبتها فيها أشد ، كما ذكرناه فيما تقدم ، بخلاف الأخرى فهي أولى لتبين عدم إلغائها بخلاف الأخرى .
الثالث والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين لا مزاحم لها في أصلها بخلاف الأخرى ، فالتي لا مزاحم لها أولى لأنها أغلب على الظن وأقرب إلى التعدية ، وعلى هذا يكون ما رجحانها على مزاحمها أكثر مقدمة أيضا .
[ ص: 278 ] الرابع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للإثبات والأخرى مقتضية للنفي ، فالنافية تكون أولى ؛ لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها وعلى تقدير مساواتها ، ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها ، وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين .
فإن قيل : إلا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق بخلاف النافية ، وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى .
وأيضا فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل ، كيف وأن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين ، وعلى هذا فيتساوى القدمان .
قلنا : أما كون حكم إحدى العلتين شرعي
>[2] فلا يرجح به ؛ لأن الحكم إنما كان مطلوبا لا لنفسه بل لما يفضي إليه من الحكم به ، والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم يود تحصيلها بواسطة نفيه .
كيف وأن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي والمثبتة على خلافه فكانت أولى .
وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع فهو معارض بمثله في المثبتة ، وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل النافي ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، والتخيير وإن كان مقولا به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله .
كيف وأن الحكم إنما يثبت لما يصلح أن يكون مقصودا ، وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساوية لا يصلح أن يكون مقصودا ، فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده .
[ ص: 279 ] الخامس والعشرون : أن تكون حكمة إحدى العلتين قد اختلت احتمالا لمانع أخل بها دون الأخرى ، فالتي لا يختل حكمها احتمالا أولى لقربها إلى الظن وبعدها عن الخلل والخلاف .
السادس والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين أفضى إلى تحصيل مقصودها من الأخرى فتكون أولى لزيادة مناسبتها بسبب ذلك .
السابع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين مشيرة إلى نقيض المطلوب ومناسبة له من وجه بخلاف الأخرى ، فما لا تكون مناسبة لنقيض المطلوب تكون أولى لكونها أظهر في إفضائها إلى حكمها وأغلب على الظن وأبعد عن الاضطراب .
الثامن والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين متضمنة لمقصود يعم جميع المكلفين والأخرى متضمنة لمقصود يرجع إلى آحادهم ، فالأولى أولى لعموم فائدتها .
التاسع والعشرون : أن تكون علة أحد القياسين أكثر شمولا لمواقع الخلاف من الأخرى ، فتكون أولى لعموم فائدتها .