وأما
الترجيحات العائدة إلى الفرع فأربعة :
الأول : أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا لأصله في عين الحكم وعين العلة ، وفرع الآخر مشاركا لأصله في جنس الحكم وجنس العلة ، أو جنس الحكم وعين العلة ، أو بالعكس ، فما المشاركة فيه في عين العلة وعين الحكم أولى ؛ لأن التعدية باعتبار الاشتراك في المعنى الأخص والأعم أغلب على الظن من الاشتراك في المعنى الأعم ، وعلى هذا فالمعنى فما المشاركة فيه بين الأصل والفرع في عين أحد الأمرين إما الحكم أو العلة ، تكون أولى مما المشاركة فيه بين أصله وفرعه في جنس الأمرين ، وإن كان فرع أحدهما مشاركا لأصله في عين العلة وجنس الحكم والآخر بعكسه ، فما المشاركة فيه في عين العلة وجنس الحكم أولى ؛ لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هي فرع تعدية العلة ، فهي الأصل في التعدية وعليها المدار .
الثاني : أن يكون الفرع في أحد القياسين متأخرا عن أصله وفي الآخر متقدما ، فما الفرع فيه متأخر أولى لسلامته عن الاضطراب وبعده عن الخلاف وعلمنا بثبوت الحكم فيه بما استنبط من الأصل .
[ ص: 280 ] الثالث : أن يكون وجود العلة في أحد الفرعين قطعيا وفي الآخر ظنيا ، فما وجود العلة فيه قطعي أولى ؛ لأنه أغلب على الظن وأبعد عن احتمال القادح فيه .
الرابع : أن يكون حكم الفرع في أحدهما قد ثبت بالنص جملة لا تفصيلا ، بخلاف الآخر فإنه يكون أولى ؛ لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف .
وأما الترجيحات العائدة إلى حكم الفرع وإلى أمر خارج فعلى ما أسلفناه في المنقولات .
وقد يتركب مما ذكرناه من الترجيحات ومقابلات بعضها لبعض ترجيحات أخر خارجة عن الحصر لا يخفى إيجادها في مواضعها على من أخذت الفطانة بيده ، وقد أشرنا إلى جملة منها في كتابنا الموسوم بمنتهى السالك في رتب المسالك ، فعليك بمراجعته .
وعلى هذا فلا يخفى الترجيح المتعلق بالاستدلالات المتعارضة بالنظر إلى ذواتها وطرق إثباتها .
وأما
التعارض الواقع بين المنقول والمعقول : فالمنقول إما أن يكون خاصا ، وإما عاما .
فإن كان خاصا : فإما أن يكون دالا بمنظومه ، أو لا بمنظومه .
فإن كان الأول فهو أولى ؛ لكونه أصلا بالنسبة إلى الرأي وقلة تطرق الخلل إليه .
وإن كان الثاني فمنه ما هو ضعيف جدا ، ومنه ما هو قوي جدا ، ومنه ما هو متوسط بين الرتبتين ، والترجيح إذ ذاك يكون على حسب ما يقع في نفس من قوة الدلالة وضعفها ، وذلك مما لا ينضبط ولا حاصر له بحيث تمكن الإشارة إليه في هذا الكتاب ، وإنما هو موكول إلى الناظرين في آحاد الصور التي لا حصر لها .
وأما إن كان المنقول عاما ، فقد قيل بتقديم القياس عليه ، وقيل بتقديم العموم ، وقيل بالتوقف ، وقيل بتقديم على جلي
>[1] القياس دون خفيه .
وقيل : يتقدم القياس على ما دخله التخصيص دون ما لم يدخله .
والمختار إنما هو تقديم القياس ، وسواء كان جليا أو خفيا ؛ لأنه يلزم من العمل بعموم العام إبطال دلالة القياس مطلقا ولا يلزم من العمل بالقياس إبطال العام مطلقا ، بل غاية ما يلزم منه تخصيصه وتأويله .
[ ص: 281 ] ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين على وجه يلزم منه تأويل أحدهما أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر ، ولأن القياس يتناول المتنازع فيه بخصوصه والمنقول يتناوله بعمومه ، والخاص أقوى من العام .
فإن قيل : إلا أن العموم أصل والقياس فرع والأصل مقدم على الفرع .
وأيضا فإن تطرق الخلل إلى العموم أقل من تطرقه إلى القياس ، على ما سبق تقريره ، فكان أولى .
قلنا : أما الأول فإنما يلزم أن لو كان ما قيل بتقديم القياس عليه هو أصل ذلك القياس ، وليس كذلك ، بل جاز أن يكون فرعا لغيره .
فإن قيل : وإن لم يكن فرعا لذلك العام بعينه فهو فرع بالنسبة إلى ما هو من جنسه .
قلنا : إلا أن ذلك لا يمنع من تخصيص العموم بالقياس ، وإلا لما جاز
تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لكونه فرعا بالنسبة إلى ما هو من جنسه ، وهو ممتنع على ما سبق .
وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بمثله ، فإن العام يحتمل أن يكون غير ظاهر في العموم ، وإن كان ظاهرا فيحتمل الخصوص ، واحتمال ذلك في الشرع أغلب من احتمال الغلط من المتبحر على ما لا يخفى .
ولهذا قيل : إنه ما من عام إلا وهو مخصوص إلا في قوله تعالى : (
والله بكل شيء عليم ) ولا كذلك القياس .