المسألة الخامسة
>[1] .
في أن
المكلف بالفعل أو الترك هل يعلم كونه مكلفا قبل التمكن من الامتثال أم لا ؟ والذي عليه إجماع الأصوليين أنه يعلم ذلك إذا كان المأمور والآمر له جاهلا لعاقبة أمره وأنه يتمكن بما كلف به أم لا ، كأمر السيد لعبده بخياطة الثوب في الغد .
ومحل الخلاف فيما إذا كان الآمر عالما بعاقبة الأمر دون المأمور ، كأمر الله تعالى بالصوم لزيد في الغد .
فأثبت ذلك
القاضي أبو بكر ، والجم الغفير من الأصوليين ونفاه
المعتزلة .
احتج المثبتون بأن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي متحقق مع جهل المكلف بعاقبة الأمر ، فكان ذلك معلوما ويدل على تحققه إجماع الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على أن كل بالغ عاقل مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي قبل التمكن مما أمر به ونهي عنه ، وأنه يعد متقربا بالعزم على فعل الطاعة وترك المعصية ، وأنه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس في أوقاتها بنية الفرض وأن المانع له من ذلك بالحبس والصد عن فعلها آثم عاص بصده عن امتثال أمر الشارع ، وذلك كله مع عدم النهي والأمر محال .
وأيضا فإنه لو لم يكن الأمر معلوما له في الحال لتعذر قصد الامتثال في الواجبات المضيقة ، لاستحالة العلم بتمام التمكن إلا بعد انقضاء الوقت ، وهو محال .
[ ص: 156 ] فإن قيل لا خفاء بأن تعليق الأمر على شرط معلوم الوقوع ، وسواء كان وقوعه حاليا كما إذا قال : صم إن كان الله موجودا ، أو مآليا كما إذا قال : صم إن صعدت الشمس غدا ، أو معلوم الانتفاء كما إذا قال : صم إن اجتمع الضدان وهو محال بل الأول أمر مشروط ، كيف وإنه يمتنع تعليق الأمر بشرط مستقبل ; لأن الشرط لا بد وأن يكون حاصلا مع المشروط أو قبله .
والثاني وإن كان فيه صيغة افعل فليس بأمر لما فيه من التكليف بما لا يطاق ، والباري تعالى عالم بعواقب الأمور .
فإن كان عالما بتمكن العبد مما كلف به ، وأنه سيأتي به فهو أمر جزم لا شرط فيه وإن كان عالما بعدم تمكنه مما قيل له : افعله ، أو لا تفعله ، فلا يكون ذلك أمرا ولا نهيا .
وإذا كان كذلك ، فالأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال لا يكون معلوما للعبد ، لتجويزه عدم الشرط ، وهو التمكن في علم الله تعالى .
وعلى هذا ، فيجب حمل الإجماع فيما ذكرتموه على ظن الأمر بناء على أن الغالب من المكلف بقاؤه وتمكنه ، لا على يقين الأمر والعلم به .
قلنا : أما امتناع تعليق الأمر بشرط معلوم الوقوع أو الانتفاء عند المأمور ، فلا نزاع فيه إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإنما النزاع إذا كان ذلك معلوما للآمر دون المأمور .
فإنه لا يبعد أمر السيد لعبده بفعل شيء في الغد مع علمه برفع ذلك في الغد عنه ، استصلاحا للعبد باستعداده في الحال للقيام بأمر سيده ، واشتغاله بذلك عن معاصيه أو امتحانه بما يظهر عليه من أمارات البشر والكراهة حتى يثيبه على هذا ، ويعاقبه على هذا لا لقصد الإتيان بما أمره به أو الانتهاء عما نهاه عنه ، ولا يكون ذلك من باب التكليف بما لا يطاق ، وإذا كان ذلك معقولا مفيدا ، أمكن مثله في أمر الباري تعالى .
قولهم : إن شرط الأمر لا يكون متأخرا عنه مسلم ؛ لما فيه من استحالة وجود المشروط بدون شرطه ، غير أن الشرط المتأخر عن الأمر وهو التمكن من الفعل
[ ص: 157 ] ليس شرطا في تحقق الأمر وقيامه بنفس الأمر حتى يقال بتأخير شرط وجوده عن وجوده بل هو شرط الامتثال .
والأمر عندنا لا يتوقف تحققه على الامتثال كما علم من أصلنا .
وعلى هذا فقد بطل قولهم إن الأمر والنهي قبل التمكن من الامتثال يمتنع أن يكون معلوما للعبد ، ووجب حمل الإجماع فيما ذكروه من الأحكام على وجود الأمر حقيقة لا على ظن وجوده ; لأن احتمال الخطإ في الظن قائم وهو ممتنع في حق الإجماع .
وإذا عرف ما حققناه فمن أفسد
>[2] صوم رمضان بالوقاع ثم مات أو جن بعد ذلك في أثناء النهار ، وجبت عليه الكفارة على أحد قولينا ، وعلى القول الآخر لا ; لأنها إنما تجب بإفساد صوم واجب لا يتعرض للانقطاع في اليوم ، لا لعدم قيام الأمر بالصوم ووجوبه .
وكذلك يجب على الحائض الشروع في صوم يوم علم الله أنها تحيض فيه وأنه لو قال : إن شرعت في الصوم أو الصلاة الواجبين فزوجتي طالق ، ثم شرعت ومات في أثنائها حنث ، ولزمه الطلاق ولا كذلك عند
المعتزلة ، وعلى هذا كل ما يرد من هذا القبيل .