[ ص: 186 ] المسألة الثانية
إذا فعل النبي عليه السلام فعلا ولم يكن بيانا لخطاب سابق ، ولا قام الدليل على أنه من خواصه ، وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة إما بنصه عليه السلام على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة ، فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على
أننا متعبدون بالتأسي به في فعله واجبا كان أو مندوبا أو مباحا .
ومنهم من منع من ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل
كأبي علي بن خلاد ، وقال بالتأسي في العبادات دون غيرها .
والمختار إنما هو المذهب الجمهوري ودليله النص والإجماع .
أما النص فقوله تعالى : (
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) ، ولولا أنه متأسى به في فعله ومتبع ، لما كان للآية معنى ، وهذا من أقوى ما يستدل به هاهنا .
وأيضا قوله تعالى : (
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة ، فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع
>[1] .
وأيضا قوله تعالى : (
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) ، ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر .
ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم ، وهو الرجاء لله واليوم الآخر ، وذلك كفر .
والمتابعة والتأسي في الفعل على ما بيناه في المقدمة : هو أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل من أجل أنه فعل .
[ ص: 187 ] وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله كرجوعهم إلى تزويجه
لميمونة ، وهو حرام وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى .
فإن قيل : أما الآية الأولى وإن دلت على التأسي به والمتابعة في التزويج من أزواج الأدعياء إذا قضوا منهن وطرا ، فليس فيها ما يدل على التأسي والمتابعة في كل فعل .
وأما الأخيرتان فلا نسلم عموم دلالتها على المتابعة والتأسي في كل شيء إذ لا عموم لهما في ذلك .
ولهذا فإنه يحسن أن يقال : ( لك في فلان أسوة في كل شيء ) ، ويقال : ( لك في فلان أسوة حسنة في هذا الشيء دون غيره ) ، ولو كان لفظ ( الأسوة ) عاما في كل شيء لكان قوله : ( في كل شيء ) تكرارا ، وقوله : ( في هذا الشيء دون غيره ) مناقضة بل غايتها الدلالة على المتابعة والتأسي في بعض الأشياء .
ونحن قائلون بذلك في اتباع أقواله والتأسي بما دل الدليل القولي على التأسي به في أفعاله ، كقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355094صلوا كما رأيتموني أصلي " ، و "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355120خذوا عني مناسككم " ونحوه .
وأما ما ذكرتموه من الإجماع ، فلا نسلم أن مستندهم فيما كانوا يفعلونه بالتأسي بالنبي في فعله وإنما كان مستندهم في ذلك غيره ، أما فيما كان مباحا فالبقاء على الأصل ، أما فيما كان واجبا أو مندوبا فالأقوال الدالة على ذلك .
والجواب عن الاعتراض على الآية الأولى : أن الآية ليس فيها دلالة على خصوص متابعة المؤمنين للنبي عليه السلام في ذلك ، ولولا أن التأسي بالنبي عليه السلام في جميع أفعاله لازم لما فهم المؤمنون من إباحة ذلك للنبي عليه السلام إباحة ذلك لهم ، ولا يمكن أن يقال بأن فهم الإباحة إنما كان مستندا إلى الإباحة الأصلية وإلا لما كان لتعليل تزويج النبي عليه السلام بنفي الحرج عن المؤمنين معنى لكونه مدفوعا بغيره .
وعن الاعتراض الثاني على الآيتين الأخريين ، أن مقصودهما إنما هو بيان كون النبي عليه السلام أسوة لنا ومتبعا ، إظهارا لشرفه وإبانة لخطره ، وذلك إنما يكون في شيء واحد أو في جميع الأشياء .
فإن كان في شيء واحد فإما أن
[ ص: 188 ] يكون معينا أو مبهما ، والقول بالتعيين ممتنع لعدم دلالة اللفظ عليه ، والقول بالإبهام ممتنع لأنه على خلاف الغالب من الشرع ولكونه أبعد عن إظهار شرف النبي عليه السلام ، فلم يبق إلا أن يكون في جميع الأشياء .
وإذا قال : ( لك أسوة في فلان في جميع الأشياء ) ، فهو مفيد للتأكيد وليس تكرارا خليا عن الفائدة ، وإذا قال : ( لك أسوة في فلان في هذا الشيء دون غيره ) ، فلا يكون مناقضة لأن العموم إنما هو مستفاد من التأسي والمتابعة المطلقة وهذا ليس بمطلق ، بل الكل جملة واحدة مفيدة لشيء معين .
وأما ما ذكروه على الإجماع ، فهو خلاف المشهور المأثور عنهم عند اتفاقهم بعد اختلافهم في التمسك بأفعال النبي عليه السلام ، والرجوع إليها وسؤال زوجاته ، والبحث عن أفعاله في ذلك وسكون أنفسهم إليها والاعتماد عليها واحتجاج بعضهم على بعض بها .
ولو كان ثم دليل يدل على المتابعة والتأسي غير النظر إلى أفعاله لبادروا إليه من غير توقف على البحث عن فعله عليه السلام ، وعلى ما ذكرناه في فعله يكون الحكم في تركه .