أجاب بأن الفور مستفاد من القرينة لا من مطلق الأمر .
الثاني - أن كل مخبر ومنشئ يقصد بإخباره وإنشائه الزمان الحاضر ؛ مثل : زيد قائم ، وأنت طالق .
فكذا الأمر بأمره ; لأنه قسم من الكلام .
أجاب بأنه قياس في اللغة فلا يفيد .
وبالفرق بأن في هذا - أي الأمر - استقبالا قطعا ; لأن الأمر طلب تحصيل الفعل ، وطلب تحصيل الفعل مقدم على حصوله . فيكون الفعل المأمور به مستقبلا بالنسبة إلى زمان صدور الأمر عن الآمر .
بخلاف سائر الإنشاء ; فإنه لا يجب وقوعه في الزمن المستقبل ؛ مثل قول الرجل لزوجته : أنت طالق ; فإن وقوع الطلاق لا يتأخر عن التلفظ بالطلاق .
[ ص: 45 ] ولقائل أن يقول أيضا : لا نسلم أن الخبر يقتضي الزمان الحاضر ، فإنه قد يكون للاستقبال ؛ مثل قول القائل : سيضرب زيد .
الرابع - أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الضد يستلزم الفور ، فكذا الأمر المستلزم للنهي عن الضد .
وقد تقدم هذان الوجهان مع الجواب عنهما في المسألة المتقدمة .
الخامس - أنه أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم ، وترك إبليس السجود ، فذمه الله تعالى على ترك السجود على الفور ، بدليل قوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك لأنه ليس للاستفهام ، فيكون للذم .
فلو لم يكن الأمر على الفور لما حسن الذم على ترك السجود ، إذ كان لإبليس أن يقول : إنما تركت السجود لأنه لم يجب على الفور .
أجاب بأن في هذه الصورة اقتضى الفور ، لا لكونه أمرا ؛ بل لقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ ص: 46 ] فإنه دل على وجوب السجود عقيب التسوية ونفخ الروح ولا يلزم منه أن يكون الأمر المطلق مفيدا للفور .
السادس - لو كان التأخير مشروعا ، لوجب أن يكون إلى وقت معين عند المكلف . والتالي باطل .
بيان الملازمة : أنه لو لم يكن التأخير إلى وقت معين عند المكلف ، لزم تكليف ما لا يطاق ; لأن الله تعالى كلف المكلف بالفعل وأوجب عليه أن لا يؤخره عن وقته ، مع أن المكلف لم يعلم ذلك الوقت الذي قد كلف بالمنع من التأخير عنه . فيكون تكليفا بما لا يعلم ، وذلك تكليف ما لا يطاق .
وأما انتفاء التالي ; فلأن ذلك الوقت ليس إلا وقتا يغلب على ظن المكلف أنه لا يعيش بعده ; لأن القائلين بالتراخي قائلون به . ولكن غلبة ظن المكلف لا بد لها من دليل ، وليس إلا كبر السن أو مرضا شديدا ; لكن كثيرا من المكلفين قد يموتون دونهما . أجاب أولا - بأن هذا الدليل منقوض بما إذا صرح للمكلف بجواز التراخي ؛ مثل أن يقول : صل متى شئت ; فإنه يطرد هذا الدليل فيه ، مع أنه للتراخي بالاتفاق .
وثانيا - بأنه لا نسلم أنه إذا لم يجب التأخير إلى وقت معين عند المكلف لزم تكليف ما لا يطاق . وإنما يلزم ذلك أن لو كان التأخير متعينا ، ولم يجز الإتيان بالمأمور به على الفور .
[ ص: 47 ] وأما إذا جاز الإتيان به على الفور - كما هو مذهبنا - لا يلزم تكليف ما لا يطاق ; لتمكن المكلف من الامتثال بالمأمور به على الفور حينئذ .
السابع - أن يقال : فعل المأمور به من الخيرات وسبب للمغفرة . فوجب الإتيان به على الفور ; لقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم . وقوله تعالى : فاستبقوا الخيرات فإنه أمر بالمسارعة والمسابقة ، والأمر للوجوب .
أجاب بأن الأمر بالمسابقة والمسارعة محمول على الأفضلية على معنى أن المسارعة والمسابقة أولى وأفضل من التأخير ; لأنه لو حمل على وجوب المسارعة والمسابقة ، لتضيق وقته ، فلم يتمكن من تركه ، فلا يكون المأمور مسارعا عند إتيانه في وقته ، لأن المسارع هو مباشر الفعل في وقت مع جواز الإتيان به بعد ذلك الوقت .