فذهب الأكثر لها أن الاستثناء بين أن مراد المتكلم بالمستثنى [ ص: 259 ] منه ما بقي ، فالمراد بـ ( عشرة ) في قولك : عشرة إلا ثلاثة ، : سبعة ، و " إلا " قرينة مبينة لذلك ، كالتخصيص بغير الاستثناء ; فإن المخصص قرينة مبينة لمراد المتكلم بالعام .
وقال القاضي أبو بكر : المستثنى والمستثنى منه وآلة الاستثناء جميعا موضوع لمعنى واحد ، وهو : ما يفهم آخرا . حتى كأن العرب وضعوا بإزاء معنى السبعة اسمين : مركبا ومفردا . فالمركب هو : عشرة إلا ثلاثة ، والمفرد هو : سبعة .
وقيل : المراد بالمستثنى منه : الجميع ؛ باعتبار الأفراد من غير حكم بالإسناد ، ثم أخرج منه المستثنى ، وحكم بالإسناد بعد إخراج المستثنى من المستثنى منه . فلم يسند إلا إلى ما بقي بعد الإخراج .
( مثلا قولنا : له علي عشرة إلا ثلاثة ؛ يكون المراد بالعشرة من حيث الأفراد : مجموع آحادها ، ثم أخرج منها ثلاث ، وأسند بعد الإخراج ) فعلم أن المسند إليه سبعة .
وهذا المذهب هو الصحيح عند المصنف .
واحتج على عدم استقامة المذهب الأول بستة أوجه :
الأول - أنه لو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي بعد [ ص: 260 ] الاستثناء - لزم أن يراد استثناء نصف الجارية من نصفها في مثل قول القائل : اشتريت الجارية إلا نصفها .
والتالي باطل ; لأنا نقطع بأن من قال : اشتريت الجارية إلا نصفها لم يرد استثناء نصفها من نصفها .
بيان الملازمة : أنه لو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي بعد الاستثناء لكان المراد بالجارية نصفها في المثال المذكور ، وقد استثنى عنه نصفها ، فيلزم استثناء نصفها من نصفها .
ولقائل أن يقول : الاشتراء وقع على الجارية كلها بحسب الظاهر ، فاستثنى مما وقع عليه الاشتراء بحسب الظاهر لتبين أن المراد بالجارية نصفها ، فلم يلزم منه استثناء النصف من النصف .
الثاني - أنه لو كان مراد المتكلم بالمستثنى منه : ما بقي بعد الاستثناء لزم التسلسل .
والتالي ظاهر الفساد .
بيان الملازمة : أن المراد بالجارية مثلا ، إذا كان نصفها ، وقد أخرج الاستثناء من المستثنى منه نصفه ، فيكون نصف النصف مخرجا بالاستثناء ، فيكون المراد بالنصف الذي هو المستثنى منه - نصف النصف ، لأنه الباقي بحد استثناء النصف عنه ، وقد أخرج [ ص: 261 ] عن المستثنى منه الذي هو نصف النصف ، وهلم جرا ، ويلزم التسلسل .
ولقائل أن يقول : لا يلزم التسلسل ؛ لأن الاستثناء بين أن المراد بالمستثنى منه الذي هو الكل بحسب الظاهر النصف ، فلم يحتج إلى تقدير لأنه قد استثنى النصف عن المستثنى منه بحسب الظاهر .
الثالث : أنه لو كان المراد بالمستثنى منه الباقي بعد الاستثناء يلزم أن يكون الضمير الذي أضيف إليه النصف راجعا إلى النصف ; لأن الضمير راجع إلى المستثنى منه ، وهو النصف حينئذ .
والتالي باطل ; لأن الضمير راجع إلى الجارية بكمالها .
ولقائل أن يقول : لا نسلم رجوع الضمير إلى النصف ; لجواز أن يكون المرجوع إليه هو اللفظ .
كما إذا أطلق لفظ ( شخص ) في ( جاء شخص ) وأريد به امرأة فإنه لا يجب تأنيث الضمير اعتبارا باللفظ المطلق .
ويمكن أن يجاب عنه بأنه لو كان الضمير عائدا إلى اللفظ يلزم أن يكون المراد نصف اللفظ .
الرابع - لو كان المستثنى منه هو الباقي بعد الاستثناء لم يكن الاستثناء في قولنا : اشتريت الجارية إلا نصفها إخراج بعض من كل .
[ ص: 262 ] والتالي باطل ; لإجماع أهل العربية على أنه إخراج بعض من كل .
ولقائل أن يمنع الملازمة ; فإنه يجوز أن يكون مراد المتكلم النصف ، ويكون الاستثناء إخراج النصف من الكل بحسب الظاهر ، ولا منافاة بينهما .
الخامس - لو كان المراد بالمستثنى منه هو الباقي بعد الاستثناء يلزم بطلان النصوص .
والتالي ظاهر الفساد .
بيان الملازمة : أن " العشرة " نص في مدلولها ، فلو أريد بها سبعة لزم بطلان النص .
ولقائل أن يقول : النص هو اللفظ الذي لم يحتمل إلا معنى واحدا عند عدم القرينة ، والعشرة إذا لم يعتبر معها قرينة الاستثناء كان كذلك .
السادس - إنا نعلم قطعا أنا نسقط الخارج ؛ أي المستثنى من المستثنى منه ، فيعلم بعد إسقاطه أن المسند إليه ما بقي بعد الاستثناء .
فلو كان المراد بالمستثنى منه : هو الباقي لم يكن الإسقاط موجبا للعلم بكون الباقي مسندا إليه ; لأن إسقاط الخارج متوقف على حصول خارج .
[ ص: 263 ] وعلى تقدير من يرى أن يكون المستثنى منه هو الباقي ، لم يحصل خارج .
ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه على تقدير أن يكون المراد بالمستثنى منه الباقي ، لم يحصل خارج ; لجواز أن يكون إسقاط الخارج بحسب ظاهر المستثنى منه ، لا بحسب ما هو مراد المتكلم منه .
واحتج على عدم استقامة المذهب الثاني بوجوه :
الأول - أنا نعلم قطعا أنه خروج عن قانون اللغة ; إذ لم يتركب كلمة واحدة من ثلاث كلمات ( في لغة العرب ، وهذا المذهب يفضي إلى تركيب كلمة واحدة من ثلاث وأكثر .
الثاني - أنه لم يعهد وضع مركب من كلمات ) أولها معرب ، وهو غير مضاف ، وهذا يفضي إلى ذلك .
الثالث - أنه لو كان كذلك لكان الضمير في " إلا نصفها " عائدا إلى جزء الاسم .
والتالي باطل ; لامتناع عود الضمير إلى جزء الاسم .
الرابع - أنه لو كان كذلك لما كان الاستثناء المتصل إخراجا .