لنا : لو كان عدما ، لكان مناسبا أو مظنة مناسب ، وتقرير الثانية أن العدم المطلق باطل ، والمخصص بأمر إن كان وجوده منشأ مصلحة فباطل ، وإن كان منشأ مفسدة ، فمانع ، وعدم [ ص: 28 ] المانع ليس علة .
وإن كان وجوده ينافي وجود المناسب ، لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه ; لأنه إن كان ظاهرا تعين بنفسه ، وإن كان خفيا ، فنقيضه خفي ، ولا يصلح الخفي مظنة للخفي ، وإن لم يكن فوجوده كعدمه .
وأيضا لم يسمع أحد يقول : العلة كذا أو عدم كذا ، واستدل بأن ( لا علة ) عدم ، فنقيضه وجود .
واحتج على أنه لا يجوز أن تكون علة الأصل عدما - إذا كان الحكم ثبوتيا - بوجهين :
أحدهما : أنه لو كان الوصف الجامع في الحكم الثبوتي عدما ، لكان مناسبا أو مظنة مناسب ، [ ص: 29 ] والتالي باطل .
أما الملازمة فلأن الوصف الجامع لا بد وأن يكون باعثا لما تقدم ، والباعث ينحصر في المناسب والمظنة كما سيأتي .
والمناسب هو : الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ، ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة أو دفع مفسدة .
ومظنة المناسب : هو ما يلازم الوصف المذكور إذا لم يكن ظاهرا .
وأما بطلان التالي ، وإليه أشار بقوله : " وتقرير الثانية " ; فلأن العدم إما أن يكون عدما مطلقا ، أو مخصصا بأمر ، أي مضافا إليه .
والأول باطل ; لأن العدم المطلق يختص ببعض الأحكام الثبوتية دون بعض .
والثاني أيضا باطل ; لأن وجود الأمر الذي اختص العدم به إما أن يكون منشأ مصلحة لذلك الحكم الثبوتي أو لا .
والثاني إما أن يكون منشأ مفسدة له أو لا .
والثاني إما أن يكون منافيا لوجود المناسب لذلك الحكم الثبوتي أو لا .
[ ص: 30 ] فهذه أربعة أقسام ، والجميع باطل .
أما الأول : وهو أن يكون وجود الأمر الذي اختص به العدم منشأ لمصلحة الحكم الثبوتي ; فلأن عدمه حينئذ لا يكون مناسبا للحكم الثبوتي ، ولا مظنة مناسب لاستلزام عدمه فوات تلك المصلحة .
وأما الثاني : وهو أن يكون وجود ذلك الأمر الذي اختص العدم به منشأ لمفسدة الحكم الثبوتي ; فلأنه حينئذ يكون وجود ذلك الأمر مانعا من تحقق ذلك الحكم الثبوتي ، فعدمه عدم المانع ، وعدم المانع لا يكون علة بالاتفاق .
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون وجود ذلك الأمر الذي اختص به العدم منافيا لوجود المناسب لذلك الحكم الثبوتي ; فلأن عدم ذلك الأمر المنافي للمناسب لا يصلح أن يكون مظنة للمناسب الذي هو نقيض ذلك الأمر المنافي; لأن نقيضه أعني المناسب ، إن كان ظاهرا ، تعين أن يكون بنفسه علة من غير احتياجه إلى مظنة ، وإن كان خفيا ، فنقيضه - وهو ذلك الأمر المنافي له - أيضا خفي ، فعدم ذلك الأمر المنافي للمناسب أيضا خفي . والخفي لا يصلح أن يكون مظنة للخفي .
وأما الرابع : وهو أن يكون وجود ذلك الأمر الذي اختص العدم به ، لا يكون منافيا للمناسب ، فوجوده كعدمه ، وإذا تساوى [ ص: 31 ] وجوده وعدمه ، لا يكون عدمه مناسبا ولا مظنة مناسب .
واعلم أن المصنف جعل المنافي المناسب قسيما لما هو منشأ مفسدة ، وذلك غير مستقيم ; لأن المنافي للمناسب داخل فيما هو منشأ مفسدة ، فلا يكون قسيما له .
قيل : ظهور المناسب لا ينافي أن يكون عدم المنافي مظنة له ، فيعلل بعدم المنافي كما يعلل بالمظنة الوجودية .
وفيه نظر ; لأنه إذا كان المناسب ظاهرا ، تعين كونه علة ، وإلا لاجتمع علتان على معلول واحد .
الثاني : أنه لم يسمع عن أحد من المجتهدين يقول : العلية كذا ، أو عدم كذا ، ولو كان العدم علة للحكم الثبوتي ، لسمع عن المجتهدين هذا القول في بعض الأوقات ; لأن العادة تقضي بذلك .
واستدل على عدم جواز التعليل بالعدم بأن العلية موجودة ; لأن ( لا علية ) عدم . فنقيضه - وهو العلية - موجودة . وإذا كانت العلية موجودة ، لم يكن العدم علة ، وإلا لاتصف المعدوم بالأمر الوجودي ، وهو محال ، وفيه مصادرة على المطلوب .
فإن عدمية لا علية متوقفة على وجود العلية ; لأن عدمية صورة السلب تتوقف على وجود ما دخل عليه السلب . فلو توقف وجود العلية على عدمية اللاعلية ، لزم الدور .
[ ص: 32 ] وقد تقدم مثل ذلك في مسألة الحسن والقبح ، حيث قيل : الحسن وجودي ; لكونه نقيض الحسن .