وفي تمكين المعترض من الدلالة على وجود العلة إذا منع .
ثالثها : يمكن ما لم يكن حكما شرعيا ; لأنه انتقال .
ورابعها : ما لم يكن طريق أولى بالقدح .
قالوا : لو دل المستدل على وجود العلة بدليل موجود في محل النقض [ فنقض المعترض ] ، فمنع وجودها ، فقال المعترض : ينتقض دليلك . لم يسمع ; لأنه انتقل [ ص: 205 ] من نقض العلة إلى نقض دليلها .
وفيه نظر .
أما لو قال : يلزمك إما انتقاض علتك ، أو انتقاض دليلها ، كان متجها .
ولو منع المستدل تخلف الحكم ، ففي تمكين المعترض من الدلالة ، ( ثالثها ) : يمكن ما لم يكن ( طريق أولى ) ، والمختار : لا يجب الاحتراز من النقض .
وثالثها : إلا في المستثنيات .
لنا : أنه سئل عن الدليل . وانتفاء المعارض ليس منه .
وأيضا : فإنه وارد ، وإن احترز اتفاقا .
وجوابه : ببيان معارض اقتضى نقيض الحكم ، أو خلافه لمصلحة ، كالعرايا وضرب الدية ، أو لدفع مفسدة آكد ، كحل الميتة للمضطر ، فإن كان التعليل بظاهر عام ، حكم بتخصيصه وتقدير [ ص: 206 ] المانع كما تقدم .
فيقول المعترض : هذا منقوض بالحلي الغير المباح ، فإنه مال غير نام مع وجوب الزكاة فيه ، ودفعه إما بمنع وجود العلة في صورة النقض ، وإما بمنع تخلف الحكم فيها .
أحدها : أنه يمكن المعترض مطلقا ; لأن المنع إنما يتقرر بالدلالة .
وثانيها : أنه لا يمكن مطلقا ; لأنه يلزم أن يكون المعترض مستدلا .
وثالثها : يمكن المعترض في الحكم العقلي ; لأنه يقدح فيه ، [ ص: 207 ] فيحصل فائدة ، ولا يمكن في الحكم الشرعي ; لأن التمكين فيه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ، ولا تجد فيه نفعا ; لأنه بعد بيان المعترض وجود العلة في صورة النقض يقول المستدل : يجوز أن يكون تخلف الحكم لوجود مانع أو انتفاء شرط ، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليلين : دليل الاستنباط ودليل التخلف ، فلا تبطل العلة ، بخلاف الحكم العقلي ، فإنه لا يتمشى فيه ذلك .
ورابعها : يمكن ما لم يكن للمعترض طريق آخر أولى بالقدح من النقض تحقيقا لفائدة المناظرة ، فإن كان له طريق أولى ، فلا يتمكن .
وقال أهل المناظرة : لو استدل المستدل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض ، فنقض المعترض العلة ، فمنع المستدل وجود العلة في محل النقض ، فقال المعترض : ينتقض دليلك حينئذ ; لأنه موجود في محل النقض ، والعلة غير موجودة فيه على زعمك ، لم يسمع ; لأن المعترض انتقل من نقض العلة إلى نقض دليل العلة .
مثاله في قول الحنفي في مسألة تبييت النية : أتى بمسمى الصوم ، فيصح ، كما في محل الوفاق ، واستدل على وجود الصوم بأنه إمساك مع النية ، وهو موجود في محل النزاع .
[ ص: 208 ] فيقول المعترض : ينتقض العلة فيما إذا نوى بعد الزوال . فيقول المستدل : لا نسلم وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال . فيقول المعترض : ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل .
ثم قال المصنف : وفيه نظر ; لأن المعترض في معرض القدح في العلة ، فتارة يقدح فيها ، وتارة يقدح في دليلها ، والانتقال من القدح في العلة إلى القدح في دليلها جائز ، والانتقال الذي لا يكون جائزا هو الانتقال من الاعتراض إلى الاستدلال .
وفيه نظر ; فإن المعترض إنما نقض دليل العلة بعدم وجود الوصف في صورة النقض على زعم المستدل ، فلا يلزمه خلاف ما أقر به أولا .
[ ص: 209 ] أما إذا قال المعترض ابتداء : يلزمك إما انتقاض علتك ، أو انتقاض دليل علتك ; لأنك إن اعتقدت وجود العلة في محل النقض ، انتقض علتك ، وإن اعتقدت عدم العلة في محل النقض ، انتقض دليلك ، كان متجها مسموعا ، وإذا منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض ، فقد اختلفوا في تمكين المعترض من الدلالة على تخلف الحكم في صورة النقض على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه لا يمكن مطلقا .
وثانيها : أنه لا يمكن مطلقا .
وثالثها : يمكن ما لم يكن للمعترض طريق أولى بالقدح من النقض .
ودلائل المذاهب الثلاثة ما مر ، مثاله قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة : ثيب ، فلا تجبر كالثيب الكبيرة .
وثانيها : أنه يجب الاحتراز مطلقا ; لقربه من الضبط .
وثالثها : يجب الاحتراز إلا إذا كان النقض مما ورد بطريق الاستثناء ، فإنه لا يجب الاحتراز حينئذ .
واحتج المصنف على المذهب المختار بوجهين :
الأول : أنه يسأل المستدل عن الدليل المعرف للحكم ، وانتفاء المعارض ليس جزءا من الدليل ، فلا يجب عليه ذكره .
الثاني : أن النقض إن لم يكن حاصلا في نفس الأمر ، فقد تم الدليل بدون التعرض ; لانتفاء المعارض ، وإن كان حاصلا في نفس الأمر ، فقد ورد النقض ، وإن احترز المستدل عنه لفظا بالاتفاق .
قيل : وفيه نظر ; لأن للخصم أن يقول : لا نسلم أن انتفاء المعارض ليس جزءا من الدليل ; لأن المراد من الدليل : ما يلزم من العلم به العلم أو الظن بالمدلول ، ولا يحصل العلم أو الظن بالمدلول إلا بعد التعرض لانتفاء المعارض .
ولا نسلم أن النقض إن لم يكن حاصلا في نفس الأمر ، يتم الدليل بدون التعرض لانتفاء المعارض ، فإنه ما لم يذكر المستدل انتفاء النقض ، ولم يقم الدليل عليه ، لم يتم الدليل .
[ ص: 211 ] وهذا النظر ضعيف ; لأن الظن بالمدلول حاصل بدون التعرض لانتفاء المعارض ، فلا يكون انتفاء المعارض جزءا من الدليل ، ولا يحتاج إلى ذكر انتفاء المعارض حتى يتم الدليل ، وإذا لم يكن دفع النقض بمنع وجود العلة في محل النقض ، وبمنع تخلف الحكم عنها فيه ، فجواب النقض ببيان وجود معارض في محل النقض اقتضى ذكر المعارض نقيض الحكم في محل النقض ، أو خلاف الحكم فيه لمصلحة أولى تفوت تلك المصلحة لولا استثناء ، كما في مسألة العرايا إذا نقض بها علية الطعم في الربويات ، فإن وجود المعارض - وهو الدليل الخاص - اقتضى نقيض حكم الربويات فيها لأجل مصلحة خاصة .
وكمسألة ضرب الدية على العاقلة إذا نقض بها علية البراءة الموجبة لعدم المؤاخذة ، فإن المصلحة الخاصة بضرب الدية على العاقلة تقتضي خلاف حكم الجنايات فيها ، أو لدفع مفسدة آكد ، كحل الميتة للمضطر إذا نقض بها علية أن النجاسة محرمة ، فإن مفسدة الهلاك أعظم من مفسدة تناول النجاسة ، هذا إذا كانت العلة مستنبطة ، أما إذا كان التعليل بنص ظاهر عام ، حكم بتخصيصه إذا انتقضت العلة ، وتعذر مانع في صورة النقص إن لم يتحقق المانع ، كما تقدم .