قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032أبو عبد الله : وزعمت طائفة من المرجئة أن الإيمان هو المعرفة ، والإقرار ، وأن الخلق كلهم من النبيين ، والمرسلين ، فمن دونهم في ذلك سواء ، وأن الله لم يأمر أحدا من الإيمان بشيء إلا أمر به غيره ، ولم يأمره من الإيمان بشيء إلا أمر به من كان قبله ، وأن الإيمان لا يلزم فرضه إلا جملة ، ولا يحدث منه شيء بعد شيء ، ولا يأتي أحد منه بشيء بعد شيء إلا كان كافرا .
فيقال لهم : خبرونا عن أهل زمان
موسى ، وعيسى ، هل كان من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا التصديق ، وأن الله قد بعث
محمدا رسولا ؟ !
فإن قالوا : لم يكن من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا أن الله قد بعث
محمدا رسولا ، ولكن كان من إيمانهم أن يعلموا ، ويعتقدوا أن الله سيبعث
محمدا رسولا .
قيل لهم : فهل من إيماننا اليوم أن نعلم ، ونعتقد أن الله قد بعث
محمدا رسولا ؟ !
فإن قالوا : ولا بد لهم من ذلك ، فقد أوجبوا علينا من
[ ص: 769 ] الإيمان ما لم يوجبوه على من كان قبلنا ، فهذا نقض لما بنوا عليه أصلهم ، وخروج من جملة قولهم .
وإن قالوا : العلم ، والاعتقاد بأن الله سيبعث
محمدا رسولا ، لأنا قد علمنا بأنه قد بعثه رسولا ، وأهل الزمان الأول قد كانوا يعلمون أن الله قد بعث
محمدا رسولا ، إذ كانوا قد علموا أنه سيبعثه رسولا ، وهذا هو الخلف من الكلام ، والتناقض من المقال . ويقال لهم : خبرونا عن من لم يسمع بذكر
محمد صلى الله عليه وسلم من زمان
موسى ، وعيسى صلى الله عليهما ، غير أنه قد آمن
بموسى ، وعيسى ، وجميع ما جاء به جملة هل يكون مؤمنا ؟ !
فإن قالوا : لا ، قيل لهم : وكذلك من لم يسمع بذكر الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وجميع ما فرض الله عز وجل ، وجميع ما أحل ، وحرم ، فجهل بشيء منه ، لأنه لم يسمع به ، ولم يفترضه الله على أهل ذلك الزمان لا يكون مؤمنا ، وهو مقر مصدق
بموسى ، وعيسى ، وبجميع ما جاءا به من عند الله .
فإن قالوا : لا يكون مؤمنا من لم يعرف منهم جميع ذلك ، ولم يقر به ، خرجوا من قول أهل الصلاة ، ولا يقول
[ ص: 770 ] هذا مسلم .
وإن قالوا : هو مؤمن ، إذ آمن
بموسى ، وعيسى ، وبما جاءا به من عند الله ، وإن لم يسمع بذكر
محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من الشرائع .
قيل لهم : فإنه بعد ذلك قامت عليه الحجة ، وعلم أن
محمدا سيبعث ، أو أدرك زمان
محمد صلى الله عليه وسلم فعلم ، وأقر به ، وصدق به ، هل حدث له من الإيمان شيء ، لم يكن قبل ذلك ، أو أصاب من الإيمان شيئا لم يكن أصابه قبل ذلك ؟ !
فإن قالوا : نعم ، فقد رجعوا عن قولهم .
وإن قالوا : لم يصب بعلمه
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإقراره به إيمانا لم يكن أصابه قبل ذلك .
قيل لهم : فإن جهل
محمدا صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه الله ، أو علمه ، فلم يقر به ، وأقام على أمره الأول ، فهو مؤمن مستكمل الإيمان ؟ !
فإن قالوا : نعم ، خرجوا من قول أهل الإسلام ، وليس هذا قولهم ، وإن قالوا : إذا جهل
محمدا صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه الله ، أو عرفه ، فلم يقر به ، فهو كافر .
قيل لهم : فهل يكون كافرا إلا بترك الإيمان ؟ !
[ ص: 771 ] فإن قالوا : لا ، فقد أقروا بزيادة الإيمان ، ووجب عليهم فرضه بعد ما بعث به
محمد صلى الله عليه وسلم .
ويقال لهم : قال الله عز وجل : (
ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ) .
خبرونا عن أولئك الذين أرسل الله إليهم هؤلاء الرسل الذين لم يقصصهم علينا ، ولم يخبرنا بأسمائهم ، هل كلفهم الله المعرفة بهؤلاء الرسل بأعيانهم ، وأسمائهم ؟ !
فإن قالوا : نعم ، ولا بد من ذلك ، قيل لهم : فقد لزم أولئك من فرض الإيمان ما لزم أولئك ، ولزم أولئك من فرض الإيمان ما لم يلزمنا ، لأنهم أدركوا أولئك الرسل ، وعاينوهم ، وأخبرونا بأسمائهم ، فوجب عليهم معرفتهم بأسمائهم ، وأعيانهم ، والإقرار ، والتصديق بأنهم رسل الله ، ولم ندركهم نحن ، ولم نعاينهم ، ولا أخبرنا بأسمائهم ، ولم يجب علينا من الإيمان بأسمائهم ، وأعيانهم ما وجب على أولئك .
وكذلك من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبالفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى ، أو ينزلها جملة في أول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا ، ثم أنزل الله الفرائض ، وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 772 ] فعرفها ، وعرف تفسيرها ، فمن آمن بها زاد إيمانا إلى إيمانه الأول .
وكذلك قال الله تبارك وتعالى : (
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) .
وذلك أن الإيمان الأول يحمل الفرائض التي نزلت ، وينزل ، كان هو الإيمان ما لم يكلفوا الإيمان بتفسير الفرائض التي نزلت ، والتي تنزل ، فإذا نزلت الفرائض ، وفسرت لهم ، وجب عليهم الإيمان بتفسيرها ، كما وجب عليهم الإيمان بجملتها ، وصار الإيمان بتفسيرها مضموما إلى الإيمان الأول ، فصار إيمانهم أكمل .
فجميع ما ذكرنا دليل على أن الناس متفاوتون في الإيمان غير مستوين ، إذ كان الله عز وجل قد افترض على الأولين من الإيمان ما لم يفترض على الآخرين ، وافترض على الآخرين ما لم يفترض على الأولين نحوا مما وصفت لك من معرفة الرسل بأعيانهم ، وأسمائهم ، وحدود الفرائض التي افترضت عليهم ، وتفسيرها ، فكل من أدى ما كلف من الإيمان ، والفرض عليه ، فهو مؤمن مستكمل لما افترض عليه من الإيمان ، وإن كان غيره أكثر
[ ص: 773 ] إيمانا ، وأكثر منه ، إذ كلف من الإيمان ما لم يكلف هو .
ويقال لهم : ما تقولون في رجل نوى أن يكفر غدا لميراث طمع أن يصيبه ، أو غيره ؟ !
فإن قالوا : هو كافر ، قيل لهم : فكيف أخرجتم المؤمن من إيمانه بنيته أن يكفر غدا ، فهل أخرجتم الكافر من كفره بنيته أن يؤمن غدا ؟ !
فإن قالوا : بأن المؤمن إذا يكفر غدا ، فقد ترك الخضوع ، والإنكار لله بالطاعة ، فمن ثم أكفرناه ، والكافر أخر الإذعان لله ، والخضوع له ، ونواه ، فلم يخرجه ذلك من كفره .
قيل لهم : أما المؤمن ففي وقته مذعن خاضع ، إذ لم يتعجل الكفر ، فيعتقده ، وإنما أخر الكفر ، ولزم الخضوع لله ، فلم يدعه ، ولو زايله الخضوع ما أخر الكفر .
وكذلك الكافر لولا مزايلة الخضوع له لآمن ، لأنه إنما نوى أن يخضع بعد وقته ، فإن كان نيته أن يخضع بعد وقته لا يخرجه من كفره ، فكذلك نية المؤمن أن لا يخضع بعد وقته ، لا يخرجه من إيمانه ، لأن الكافر أورد النية بخضوع ، يتأخر على أنها لازم ، والمؤمن أورد لله تائبا متأخرا على خضوع لازم ، فلا فرقان بين ذلك ، فإما أن
[ ص: 774 ] يحكموا عليهما بحاليهما في وقتيهما اللذين هما فيهما ، أو بحاليهما اللذين لم يأتيا ، ولا فرقان بين ذلك ، وأخرى .
أين وجدتم أن النية في عينها إيمان ، أو الخضوع في عينه إيمان إذا كان الكافر منكرا لله بقلبه ، ولسانه ناو ، لا يكذب عليه بعد موته ، فقد ثبتم الإرادة ، والخضوع إيمانا ، وزوالهما كفرا ، فلم ينفع الكافر ، إذ لم يتعجلها ، فهلا نفعت المؤمن إذ تعجلها ؟ فقد أكفرتم مع التصديق بالقلب ، واللسان بالنية ، لأن يفعل شيئا ، لعله لا يفعله ، وقد كان يجب عليكم في القياس أن شهد للكافر بالإيمان بنيته التي قدمها ، كما لم ينفع المؤمن معرفته ، وقوله بلسانه ، وخرج من الإيمان بالنية للكفر .
فكذلك لا يكفر الكافر إنكاره بقلبه ، وتكذيبه بلسانه مع النية التي قدمها أن يؤمن غدا .
فإن هم سألونا ، فقالوا : ما تقولون أنتم في ذلك ؟ ! قيل لهم : إن الإيمان ليس هو عندنا المعرفة وحدها ، ولا القول وحده ، لأنا قد وجدنا المنافقين يقرون بألسنتهم ، وهم كافرون ، ووجدنا اليهود قد عرفوا الله ورسوله بقلوبهم ، وهم كافرون ، فلما كانت المعرفة في عينها إذا انفردت لا إيمان ، وكان القول إذا انفرد لا إيمان ، فإذا ضما لم يكونا إيمانا إلا بشريطة نيته ، لأنه ليس من شيئين
[ ص: 775 ] ينفردان خارجين من بعض الأجناس ، ثم يجتمعان ، فيدخلان في غير جنسهما ، إلا أن يزيد فيهما معنى ، وهو أن يجوز معرفة ليست بمعرفة تسبق على كتاب سمع كمعرفة اليهود ، لا معرفة بيان أوجبها الاضطرار ، فإبليس عاين ما لم يجد للشك فيه مساغا يعرف ، ثم أبى السجود ، وإنما المعرفة التي هي إيمان هي معرفة تعظيم الله ، وجلاله ، وهيبته ، فتعظم المعرفة تعظم القدر معرفة فوق معرفة الإقرار ، فإذا كان كذلك فهو المصدق الذي لا يجد محيصا عن الإجلال ، والخضوع لله بالربوبية ، ولا تطاوعه نفسه ، ولا يصفو لنفسه ريبة الكفر ، لأن النية في الكفر استهانة بالرب ، والاستهانة ضد التعظيم ، والإجلال ، والهيبة ، فإذا عظمت معرفته تعظيم قدره لم تبح نفسه بنية الكفر ، ولو قطع أعضاؤه ، فمن ثم كان هذا المؤمن لما نوى الكفر ، لأنه لم ينو الكفر ، ويعتقده لدينا ، وغير ذلك من تدين حتى صغر قدر الرب عنده ، فاستهان به ، وليس هذا بمصدق ، ولا مؤمن ، لأن التعظيم لا يقارن الاستهانة ، والتصديق لا يقارن نية التكذيب ، وكيف يفترقان وهما ضدان ؟ !وكذلك الكافر لو كان بعثه على نية الإيمان معرفته لله بتحقيقه على ما وصفنا ما أخر ذلك طرفة عين ، ففي
[ ص: 776 ] تأخيره ذلك أمن من الله ، فاستهان به ، فهو كافر لا محالة ، وكلاهما كافران ، بغير الجواب الذي أجبتم .
فبذلك ثبت أن
الإيمان يوجب الإجلال لله ، والتعظيم له ، والخوف منه ، والتسارع إليه بالطاعة على قدر ما وجب في القلب في عظيم المعرفة ، وقدر المعروف .