قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032أبو عبد الله : ويقال لهم : قولكم : إن القول باللسان إيمان مع المعرفة ، أيهما أصل للآخر ؟ !فإن زعموا أن القول باللسان أصل للإيمان ، فقد أوجبوا للمنافقين أصل الإيمان ، إذ يشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله ، وقد أكذبهم الله عز وجل ، وأخبر أنهم كاذبون ، ثم أخبر عن الأعراب الذين قالوا : آمنا ، فقال : (
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ، فأخبر أن قولهم ذلك ليس بإيمان ، ثم أخبر أن الإيمان أوله على القلب ، فقال : (
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . وقال : (
ومن الناس من يقول : آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) .
فقد دل القرآن على إكفار من أقر بلسانه ، وقلبه منكر .
وإن قالوا : إن المعرفة أصل الإيمان .
[ ص: 777 ]
قيل لهم : فالإقرار أصل ثان مضاف إليه ، أو فرع له ؟
فإن قالوا : أصل ثان ، قيل لهم : فمن جاء بالمعرفة ، ولم يأت بالأصل الثاني لطلب دنيا ، أو استكبار عن اتباع المسلمين ، لئلا يزول عن رياسة ، أو غيرها ، إلا أنه عارف بالله عز وجل ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ما حاله عندكم ؟ !
فإن قالوا : كافر ، قيل لهم : كافر ليس فيه من الإيمان شيء ، أو قد جاء بأحد الأصلين ؟ !
فإن قالوا : ليس فيه من الإيمان شيء ، فقد زعموا أن معرفة القلب هو قول اللسان ، إذ كان زوال المعرفة هو ترك القول ، وهذا التناقض ، ولو كان كذلك ، كان إذا أقر باللسان كان عارفا من قبل الإقرار باللسان ، وإن كان منكرا بقلبه ، فإن كان قد تجامع الإنكار بالقلب ، القول باللسان ، فكذلك تجامع المعرفة ترك القول باللسان ، ولو كان في زوال المعرفة زوال القول ، وكان لا يقر باللسان منكرا ، كما لم يعرف القلب منكرا باللسان أبدا على قياس ما قلتم .
فإن قالوا : الإقرار فرع لأصل الإيمان ، وهو المعرفة .
قيل لهم : فترك الفرع يذهب بالأصل ، أو يبقى الأصل على حاله ، وأزال الفرع ؟ !
[ ص: 778 ]
فإن قالوا : يذهب الأصل ، قيل لهم :
فالأصل أولى أن يكون في زواله زوال الفرع ، فقد وجدناه مقرا منكرا ، فكذلك ثبت أنه عارف منكر .
فإن قالوا : هو عارف تارك للإقرار بلسانه .
قيل : ولم يسمه الله مؤمنا ، مع ترك الإقرار بلسانه .
وقيل لهم : إبليس إنما كفر بترك الفرع ، ولم تنفعه المعرفة ، وليس القول من المعرفة في شيء ، لأنه فرع مضاف إليها بالاسم ، لا من جنسها ، وإنما الإقرار باللسان يكون عنها ، وليس هو بها ، ولا من جنسها ، لأن الأصوات ، والحروف ، والحركات ليست من جنس الضمير في شيء ، وإن كان الإيمان لا يتم إلا بفرع عن المعرفة ، وليس من جنسها ، فما أنكرتم على من زعم أن الإيمان لا يتم إلا بالصلاة ، وليست هي من جنس المعرفة ، ولكن عنها يكون .
فإن زعمتم أن بينهما فرقانا ، فما الفرقان ؟ اللغة يدعونها في مجاز اللغات ، أو حقيقة معنى ؟ فإن زعمتم أن العرب قد يقول بعضها لبعض : فلان صدقني بلسانه ، فسموا الإقرار تصديقا .
[ ص: 779 ]
قيل لكم : ليس يخلو ما ادعيتم من قول العرب من أحد معنيين : إما أن تكون تعني بقولها : صدقني فلان بلسان ، أي أنه آمن بقول بلسانه ، وقلبه لا يعرف ذلك ، أو تكون تعني أنه صدقني بقلبه ، فآمن بقولي ، ثم عبر لي عما في قلبه ، أني صادق عنده ، فإن كانت تعني أنه آمن بلسانه ، دون قلبه ، فقد ثبت الإيمان باللسان ، وإن كان القلب منكرا ، وإن كانت إنما تعني أنه إنما عبر عما في قلبه ، فقد دلل بذلك أن العبارة ليست بالمعبرة عنه .
وإن زعمتم أنها معنى ثالث ، على أحد معنيين : أحدهما تصديق بالقلب ، والآخر تحقيق لما في قلبه .
قيل لكم : تحقيق ، يدل على أنه قد آمن ، أو الإيمان قائم في اللسان ؟ !
فإن قالوا : قائم في اللسان ، فقد فرغنا من ذلك .
وإن قالوا : تحقيق له ، ولا بد لهم من ذلك ، وإلا عاندوا اللغة ، وخالفوا الفرقان ، لأن الله يقول : (
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ، فأخبر أنه في القلب ، وأخبر أن قولهم ليس بإيمان إذ قال : لم تؤمنوا .
فقد دل أن قول الإنسان ليس بإيمان في عينه ، حتى
[ ص: 780 ] يكون عبارة عما في القلب .
وأما اللغة فقد أجمع أهلها أن قول القائل : صدقت في أن لك علي حق ، أنه إقرار بلسانه ، ولا يخلو من أحد معنيين : إما أن يكون أقر له لرهبة ، أو لغير ذلك ، وهو منكر لحقه ، فذلك منه كذب ، لأنه غير مؤمن بما يقول ، أو يكون عارفا بذلك بقلبه ، مصدقا له ، وقد أجمعوا أن ذلك عبارة عما في قلبه تحقيق إيمانه بقلبه ، فيقولون قد آمن بما قال ، وصدق به ، وكذلك لو طلب منه حقه ، فقال : لي عليك ألف دينار ، أو هذا الثوب الذي عليك لي ، فخلعه ، فناوله إياه ، أو وزن له ألف دينار ، فدفعها إليه ، فقالوا : قد صدقه ، ورد عليه حقه ، ولو لم يصدقه ما أعطاه ، فإن كان الإقرار تحقيقا لما في القلب ، يدل به على أنه مصدق بالله ، وبما قال ، فكذلك
جميع الطاعات المفترضة هي محققة للتصديق ، مكملة له ، لأنه إن كان إنما يكمل إيمانه بأن يرفع لسانه ، ويضعه بالتوحيد ، فكذلك يكمل إيمانه بأن يضع وجهه لله في التراب ، توحيدا له بذلك ، لا يريد غيرهما ، كلاهما جارحتان غير القلب ، وغير عمله ، ولا فرقان بين ذلك ، إلا ادعاء اللغة التي قد تداولتها العرب بينها ، يريد به العبارة
[ ص: 781 ] بعينها أن الإقرار عبارة عن الإيمان في القلب ، وقد يسمى فعل الجوارح أيضا تصديقا ، لو قال قائل لرجل : إن فلانا قتل ولدك ، فشد على قاتله من غير أن يقول للمخبر له : صدقت ، لشهدت القلوب ، أنه قد صدقه بفعله ، ومع شهادتهما فهي عالمة أن ذلك الفعل تحقيق لتصديق قلبه ، لا أنه في نفسه إيمان بالقلب ، ومن ذلك تصديقا منهم تحقيقا لما في قلوبهم من تعظيم الله ، وطاعته ، ولم يخبرنا أنهم قالوا : صدقت هو علينا ، ثم سجدوا ، وأبى إبليس أن يسجد ، ولم يقل : إنك لم تأمرني بالسجود ، فكان إباؤه كفرا ، لا أنه جحد بلسانه ، فكان سجودهم إيمانا ، كما كان إباؤه كفرا .
فكذلك المؤمن إذا أقر ، شهدت القلوب أنه مصدق للظاهر ، وإن لم يقطعوا بالغيب ، وهم عارفون أن قول اللسان ليس هو الإيمان بالقلب ، وإنما هو عبارة عما في القلب ، ولن تجدوا بين ذلك فرقانا إلا بالمكابرة .
ويقال لهم : أرأيتم إن سوغنا لكم أن العبارة عما في القلب بالإقرار ، هو في عينه إيمان كالمعرفة بالقلب ، أرأيتم هذا الإقرار الذي هو إيمان ، متى يكون إيمانا ، إذا كان كافرا قبل ذلك ، فإذا أقر ، فبدل الجحد الأول ، أو
[ ص: 782 ] أقر كان إيمانا ، أو إذا جاء بالإقرار ، وإن كان ناسيا على غير جحد ، فأتى بالإقرار في وقت البلوغ ، أو خلقه الله بالغا ، فأقر بعد البلوغ ؟ !
فإن قالوا : إنما يكون الإقرار باللسان إيمانا ، فمن كان جاحدا من قبل ، فقد أخرجوا الملائكة ، وآدم صلى الله عليه ، وكل ناشئ على الإسلام من أن يكون آمن بالله قط ، ولا يقول هذا أحد .
وإن زعموا أنه إيمان من كل أحد جاحدا كان ، أو ناسيا ، أو خلق بالغا ، بغير طفولية كالملائكة ، وغيرهم .
قيل لهم : فإذا كان هكذا ، فلم يسم إقرارا ، إلا أنه اعتراف للرب بوحدانيته ، وبما قال ، أو لأنه اعتراف ، وهو واجب ؟
فإن قالوا : لأنه اعتراف في عينه لا أنه أوجبه .
قيل لهم : فكلما جاء بالاعتراف ، فهو إيمان .
وإن قالوا : لأنه اعتراف ، وأن الله أوجبه .
قيل لهم : فكلما جاء به اعترافا واجبا ، فهو إيمان .
فإن قالوا : لا ، ناقضوا قولهم .
وتفسير ذلك أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله من قلب
[ ص: 783 ] صادق ، فقد أقر ، ومعنى أقر : اعترف ، فإذا كان هذا إيمانا ، فكلما وحد الله أبدا إلى أن يموت بلسانه ، فهو معترف عن قلب صادق ، فهو في كل يوم ، وفي كل ساعة يوحد فيها ، يزداد إيمانا ، وكل وقت يشتغل قلبه بالمعاصي ، فلا ينشرح للقول بالاعتراف ، ولا يعظم في قلبه الرب تبارك وتعالى ، فيفزع إلى توحيده ، فهو أنقص منه في الحال الأولى التي عظم بقلبه المعترف به ، حتى حمل ذلك على القول بلسانه من غير أن يكون نقصا بتصديقه بقلبه ، أن الله حق لا باطل ، ولكنه نقص من تركه الاعتراف الذي هو عليه واجب كالتشهد ، والذكر في الصلاة الذي كان يأتي به اليوم مرارا كثيرة من تعظيم لله بقلبه .
فإن قالوا : إن ذلك التكرار للتوحيد ، ليس هو بواجب عليه ، ولا يكون من الإيمان .
قيل لهم : فقد ثبتم عن ضمائركم أن الاعتراف إنما يكون توحيدا ، وإيمانا مع الوجوب ، أفرأيتم التشهد في الصلاة ، والتوحيد في الأذان ، أتوحيد له ؟ وكذلك الإخلاص لله بالحمد ، إذا قرأ في صلاته ، فقال : (
الحمد لله رب العالمين ) ، فقد أخلص لله بالتوحيد ، وأقر أنه رب الخلائق ، وكذلك التشهد في كل صلاة مفترضة ،
[ ص: 784 ] وكذلك التلبية أول ما يحرم لا بد أن يأتي بها مرة ، فكذلك جميعا كله إيمان ، إن كان كل اعتراف واجب يكون إيمانا .
فإن قالوا : ليس هو إيمانا لأنه واجب ، ولكنه اعتراف في عينه في أول ما يصدق به .
قيل لهم : هذه دعوى منكم ، فما جعله أولا إيمانا ، وآخرا لا إيمان ، والمعنى واحد ؟ !
فإن قالوا : وجدنا جميع المسلمين إذا أقر الرجل أول ما يسلم .
قيل : آمن ، وإذا كررها بعد ذلك لم يقل : آمن .
قيل لهم : فقد ثبتم أن معناكم على قياس قولكم : إن الإقرار إنما يكون إيمانا ، فمن كان جاحدا من قبل فقط ، وهذه الشهادة على كل ملك ، ورسول ، وناشئ على الإسلام ، أنه لم يؤمن بلسانه قط ؟
فإن قالوا : لسنا نقول ذلك ، ولكنا نقول له : إن الطفل إذا بلغ ، فأقر في وقت بلوغه ، فذلك منه إيمان ، فإنه وجب عليه إيمان تلك الساعة .
قيل لهم : فهل رأيتم المسلمين يقولون لطفل إذا بلغ ، فيشهد : آمن الساعة ؟ أو يعملون أنه لم يجب عليه
[ ص: 785 ] الإيمان ، إلا تلك الساعة ، ثم أتى بما وجب عليه ، ولا يقولون : إنه آمن الساعة ، فيوهمون أنه كان كافرا من قبل ، ولكن يقولون : الآن وجب عليه الإيمان ، وقد كان من قبل أن تأتي به مؤمنا ، ولم يكن واجبا عليه ، وهذا اعتراف في عينه أول ما وجب عليه ، ولم يكن اعتراف لأنه واجب ، ولو كان كذلك ما كان أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، فيكون ذلك اعترافا ، وخضوعا لله ، إلا مرة واحدة ، ولكنه معقول أنه لا يزايله اسم الاعتراف متى أتى به ، لأنه اعتراف في عينه ، فلما كان بعد ما أداه في أول الوجوب ، لا يزايله اسم الاعتراف، لم يزايله اسم الإيمان أبدا، إلا أنه يأتي به واجبا في أول الوجوب ، ثم هو يكرره في الفرائض ، وغيرها ، ولو كان في عينه هو الإيمان ، لا لأنه اعتراف عما في القلب ، لكان إذا سكت كفر ، لأن ضد الكلام السكوت ، كما أن ضد المعرفة الإنكار .
وإن قلتم : إنما يأتي بضده إذا جحد بلسانه .
قيل : كيف يأتي بضده بعد ما قد نقض ؟ وهل يكون للفاني ضد يزيله ، وكيف يزيل الموجود ما ليس بموجود ، لأنه قد فني الكلام الأول ، وأعقبه السكوت ، ثم جاء بالجحد بلسانه ، فزال السكوت ، ثم زعمتم أنه قد زال ما كان قد زال من قبل ،
[ ص: 786 ] ولو كان كذلك لكان النهر إذا ذهب ، ثم جاء الليل ، ثم جاء الصبح في اليوم الثاني ، كان اليوم الثاني ضدا للأول ، فأزال ما قد زال ، وقد كانت بينهما واسطة ، وهو الليل ، كما كان السكوت بين الإقرار والجحد .
فإن زعموا : أن الاعتراف كان عن خضوع من القلب ، فلما جاء الجحد ، لم يأت حتى زال خضوع القلب .
قيل : فقد ثبت أن الإيمان هو الخضوع مع المعرفة ، وأن القول عبارة عنه ، فلما جاء بقول ، خلاف ذلك ، لم يأت به إلا عن زوال الخضوع عن القلب ، وهو الإباء ، أن يقر بلسانه لاستنكاف ، أو طمع في دنيا ، أو طلب رياسة ، فكذلك كل ما أتى بالقول ، والخضوع في القلب على حاله ، فإنه يزداد إيمانا ، إذا كان عبارة عن الخضوع في القلب ، لم يتغير ، ولم يتقلب إلا زاله ، أو لا يحق فيه الوجوب ، لم يكرره واجبا ، وغير واجب ، إن الخضوع دائم في القلب بحاله ، والقول كالقول الأول ليس بين ذلك فرقان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله " .
فسمى الشهادة إيمانا ، فمتى ما وجدت الشهادة من
[ ص: 787 ] قلب مخلص ، مصدق فهي إيمان ، وقائلها مزداد إيمانا إلى إيمانه .