صفحة جزء
5 - ( 327 ) : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : ثنا عبدة عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى بقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية . ومن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

[ ص: 556 ] والله يقول : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فقال مسروق لعائشة : يا أم المؤمنين - رضي الله عنها - أو لم يقل : ولقد رآه نزلة أخرى وقال الله تعالى : ولقد رآه بالأفق المبين فقالت عائشة - رضي الله عنها - : " أنا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : رأيت جبريل ، نزل في الأفق ، على خلقه وهيئته ، أو خلقه وصورته سادا ما بين الأفق " .


قال أبو بكر : هذه لفظة ، أحسب عائشة تكلمت بها ، في وقت غضب كانت لفظة أحسن منها يكون فيها دركا لبغيتها ، كان أجمل بها ، ليس يحسن في اللفظ : أن يقول قائل : أو قائلة - فقد أعظم ابن عباس الفرية ، وأبو ذر ، وأنس بن مالك ، وجماعات من الناس الفرية على ربهم ، ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها ، أكثر ما في هذا أن عائشة رضي الله عنها وأبا ذر ، وابن عباس رضي الله عنهما ، وأنس بن مالك رضي الله عنه قد اختلفوا : هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت عائشة - رضي الله عنها (لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم ربه) ، وقال أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما : قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، وقد أعلمت في مواضع في كتبنا أن النفي لا يوجب علما ، والإثبات هو الذي يوجب العلم ، لم تحك [ ص: 557 ] عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه خبرها أنه لم ير ربه - عز وجل - ، وإنما تلت قوله عز وجل : لا تدركه الأبصار وقوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا . ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب ، علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال : أن محمدا رأى ربه الرمي بالفرية على الله ، كيف بأن يقول : (قد أعظم الفرية على الله ؟ ) .

لأن قوله : لا تدركه الأبصار قد يحتمل معنيين : على مذهب من يثبت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم خالقه ، عز وجل ، قد يحتمل بأن يكون معنى قوله : لا تدركه الأبصار على ما قال ترجمان القرآن : لمولاه عكرمة ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء .

والمعنى الثاني : أى : لا تدركه الأبصار أبصار الناس ، لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما يقع على أبصار جماعة ، لا أحسب غريبا يجيء من طريق [ ص: 558 ] اللغة أن يقول : لبصر امرئ واحد أبصار ، وإنما يقال لبصر امرئ واحد بصر ، ولا سمعنا غريبا يقول : لعين امرئ واحد بصرين ، فكيف أبصار .

ولو قلنا إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان فأما من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق ، فلم يقل : إن الأبصار قد رأت ربها في الدنيا ، فكيف يكون - يا ذوي الحجا - من يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، دون سائر الخلق مثبتا أن الأبصار قد رأت ربها ، فتفهموا يا ذوي الحجا هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس رضي الله عنهما وأبا ذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله ، ولا خالفوا حرفا من كتاب الله في هذه المسألة .

فأما ذكرها : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فلم يقل أبو ذر وابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك ولا واحد منهم ولا أحد ممن يثبت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم خالقه - عز وجل - أن الله كلمه في ذلك الوقت الذي كان يرى ربه فيه ، فيلزم أن يقال : قد خالفتهم هذه الآية ، ومن قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، لم يخالف قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، [ ص: 559 ] وإنما يكون مخالفا لهذه الآية من يقول : رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه فكلمه الله في ذلك الوقت ، (و) ابن عمر مع جلالته وعلمه وورعه وفقهه وموضعه من الإسلام والعلم يلتمس علم هذه المسألة من ترجمان القرآن ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل إليه ليسأله ، هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم ربه ؟ ، علما منه بمعرفة ابن عباس بهذه المسألة يقتبس هذا منه .

فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي - صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه ، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا من الجنس الذي لا يدرك بالعقول ، والآراء والجنان والظنون ، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة ، إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى ، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه برأى وظن ، لا ولا أبو ذر ، لا ولا أنس بن مالك ، نقول : كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما في هذه المسألة : (ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس ، نقول : عائشة الصديقة بنت الصديق ، حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة كذلك ابن عباس ، رضي الله عنهما ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم له أن يرزق الحكمة ، والعلم ، وهذا المعني من الدعاء وهو المسمى بترجمان القرآن ، ومن كان الفاروق رضي الله عنه يسأله عن بعض معاني [ ص: 560 ] القرآن ، فيقبل منه ، وإن خالفه غيره ، ممن هو أكبر سنا منه ، وأقدم صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله ، لأنه قد أثبت شيئا ، نفته عائشة رضي الله عنها ، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة وإن غلط بعض العلماء في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنة أو سننا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم لم تبلغ المرء تلك السنن فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من يثبت شيئا لم ينفه كتاب ولا سنة فتفهموا هذا ، لا تغالطوا .

(ذكر حكاية معمر : سمعت عمي يحكيه عن عبد الرزاق ، عن معمر في خبر ليس إسناده من شرطنا) .

التالي السابق


الخدمات العلمية