الباب الأول : في
ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده فهم لا يهتدون إلى الحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه وأنه طبع على قلوبهم
قال الله عز وجل
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم . وقال عز وجل
بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا . وقال عز وجل
ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم . وقال عز وجل
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها .
[ ص: 254 ] وقال عز وجل
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . . الآية .
وقال عز وجل
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون .
وقال أيضا
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .
وقال عز وجل
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون .
وقال عز وجل
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا .
وقال عز وجل
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .
وقال عز وجل
ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم .
[ ص: 255 ] وقال عز وجل
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وقال عز وجل
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
وقال عز وجل
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم .
وقال عز وجل
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .
فهذا ونحوه من القرآن مما يستدل به العقلاء من عباد الله المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقا من عباده أراد بهم الشقاء ، فكتب ذلك عليهم في أم الكتاب عنده ، فختم على قلوبهم ، فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه ، وغشا أبصارهم عنه ، فلم يبصروه ، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه ، وجعل
[ ص: 256 ] قلوبهم ضيقة حرجة وجعل عليها أكنة ومنعها الطهارة ، فصارت رجسة ؛ لأنه خلقهم للنار ، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها ، فإنه قال الله عز وجل
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل .
وقال تعالى
وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به ، وأن يردوا علم ذلك ومراد الله فيه إلى الله عز وجل ، ويحمل جهل العلم بذلك المؤمن على نفسه
ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه ولا يقولوا لم فعل الله ذلك ، ولا كيف صنع ذلك ، وفرض على المؤمن أن يعلم أن ذلك عدل من فعل الله ؛ لأن الخلق كله لله عز وجل ، والملك ملكه ، والعبيد عبيده ، يفعل بهم ما يشاء ، ويهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، ويسعد من يشاء ويحمده على السعادة ، ويشقي من يشاء ويذمه على الشقاء ، وهو عدل في ذلك ، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون واختص برحمته من يشاء من عباده ؛ فشرح صدورهم للإيمان به وحببه إليهم وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وسماهم
[ ص: 257 ] راشدين ، وأثنى عليهم بإحسانه إليهم ؛ لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه ، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه ، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه رحمة منه لهم وعناية بهم من غير أن يستحقوه ، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره ، فشكرهم هو على إحسانه إليهم قبل أن يشكروه ، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه ، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه ؛ فقال
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، ثم قال
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ، فقالوا حين قبضوا ثمن ابتياعه منهم ووصلوا إلى ربح تجارتهم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق .
فيسأل الجاهل الملحد المعترض على الله في أمره ، والمنازع له في ملكه ، الذي يقول : كيف قضى الله علي المعصية ؟ ولم يعذبني عليها ؟ وكيف حال بين قوم وبين الإيمان ؟ وكيف يصليهم بذلك النيران ؟ أن يعترض عليه في بدايته بالهداية لأنبيائه وأصفيائه وأوليائه ، فيقول : لم خلق الله
آدم بيده وأسجد له ملائكته ؟ ولم اتخذ إبراهيم خليلا وأتاه رشده من قبل ؟ ولم كلم الله موسى ؟ ولم خلق
عيسى من غير أب وجعله آية للعالمين وخصه بإحياء الأموات وجعل فيه الآيات المعجزات من إبراء الأكمه والأبرص وأن يخلق من الطين طيرا ؟
[ ص: 258 ] تعالى الله عن اعتراض الملحدين علوا كبيرا .
لكن نقول : إن لله المنة والشكر فيما هدى وأعطى ، وهو الحكم العدل فيما منع وأضل وأشقى ، فله الحمد والمنة على من تفضل عليه وهداه ، وله الحجة البالغة على من أضله وأشقاه . قال الله عز وجل
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
وقال أهل النار
ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين .
وقالوا
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
فهذه طريقة من أحب الله هدايته إن شاء الله ، ومن استنقذه من حبائل الشياطين وخلصه من فخوخ الأئمة المضلين .
[ ص: 259 ]