ثم
إن الجهمية كذبت الآثار وجحدت الأخبار ، وطعنت على الرواة ، واتهموا أهل [ ص: 193 ] العدالة والأمانة ، وانتصحوا أهواءهم وآراءهم ، واتخذوا أهواءهم آلهة معبودة وأربابا مطاعة .
فإذا وجدوا حديثا قد وهم المحدث في روايته وكان في ألفاظ متنه بعض التلبيس والتوهم ، انتحلوه دينا ، وجعلوه أصلا ، ووثقوا روايته وإن لم يعرفوه ، وصححوه وإن كانوا لا يثبتونه .
فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16996محمد بن عبيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15617جامع بن شداد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16232صفوان بن محرز ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن الحصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" كان الله قبل أن يخلق الذكر ، ثم خلق الذكر ، فكتب فيه كل شيء " .
فقالت
الجهمية : إن القرآن هو الذكر ، والله خلق الذكر ، فأما ما احتجوا به من هذا الحديث فإن أهل العلم وحفاظ الحديث ذكروا أن هذا الحديث وهم فيه
nindex.php?page=showalam&ids=16996محمد بن عبيد وخالف فيه أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش وكل من رواه عنه .
وبذلك احتج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رحمه الله ، فقال : رواه بعده جملة من
[ ص: 194 ] الثقات ، فلم يقولوا : خلق الذكر ، ولكن قالوا : كتب في الذكر ، والذكر هاهنا غير القرآن ، ولكن قلوب
الجهمية في أكنة ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يعرفون من الكتاب إلا ما تشابه ، ولا يقبلون من الحديث إلا ما ضعف وأشكل " .
والذكر هاهنا هو اللوح المحفوظ ، الذي فيه ذكر كل شيء ، ألا ترى أن في لفظ الحديث الذي احتجوا به ، قال : فكتب فيه كل شيء أفتراه كتب في كلامه كل شيء ، وقد بين الله ذلك من كتابه ، وذلك أن الذكر في كتاب الله على لفظ واحد بمعان مختلفة ، فقال :
ص والقرآن ذي الذكر ، - يعني : ذا الشرف .
وقال :
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم - يعني : شرفكم .
وقال :
بل أتيناهم بذكرهم - يعني : بخبرهم .
وإنه لذكر لك ولقومك ، يقول : وإنه لشرف لك ولقومك .
وقال :
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله - يعني : الصلاة .
وقال :
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر - يعني : في اللوح -
[ ص: 195 ] المحفوظ ، لا يجوز أن يكون الذكر هاهنا القرآن ، لأنه قال :
في الزبور من بعد الذكر ، والزبور قبل القرآن ، والذكر أيضا هو القرآن في غير هذه الآيات كما أعلمتك ، إلا أن الحرف يأتي بلفظ واحد ، ومعناه شتى .
والجهمي يقصد لما كانت هذه سبيله ، فيتأوله على المعنى الذي يوافق هواه ، ولا يجعل له وجها غيره ، والله يكذبه ويرد عليه هواه .
ومما وضح به كفر الجهمي ما رده على الله وجحده من كتابه ، فزعم أن الله لم يقل شيئا قط ولا يقول شيئا أبدا .
فيقال له : فأخبرنا عن كل شيء في القرآن : قال الله وقلنا ، ويوم نقول ، فقال : إنما هذا كله كما يقول الناس : قال الحائط فسقط ، وقالت النخلة فمالت ، وقالت النعل فانقطعت ، وقالت القدم فزلت ، وقالت السماء فهطلت ، والنخلة والحائط والسماء لم يقولوا من ذلك شيئا قط .
فرد الجهمي كتاب الله الذي أخبر أنه عربي مبين ، وقال :
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ولسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لسان قرشي ، وهم أوضح
[ ص: 196 ] العرب بيانا وأفصحها لسانا ، وهذا لم ينزل به القرآن ولم يتكلم به فصحاء العرب ، فحكموا على الله بما جرى على ألسنة عوام الناس ، وشبهوا الله تعالى بالحائط والنخلة والنعل والقدم .
ويقال له : أرأيت من قال : سقط الحائط ، وهطلت السماء ، وزلت القدم ، ونبتت الأرض ، ولم يقل : قال الحائط ، ولا قالت السماء ، وأسقط قال وقالت في هذه الأشياء ، أيكون كاذبا في قوله ؟ أم يكون تاركا للحق في خطابه ؟
فإذا قال : ليس بتارك للحق ، قيل له : فما تقول في رجل عمد إلى كل قال في القرآن مما حكاه الله عن نفسه أنه قال فمحاه ، هل يكون تاركا للحق أم لا ؟ فعندها يبين كفر الجهمي وكذبه .
ومما يغالط به الجهمي جهال الناس والذين لا يعلمون ، أن يقول : خبرونا عن قول الله عز وجل :
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيقول : خبرونا عن هذا الشيء ، أموجود هو أم غير موجود ؟
فيقال له : إن معنى قوله :
إذا أراد شيئا هو في علمه كائن بتكوينه إياه ، قال لذلك الذي قد علم أنه كائن مخلوق : كن كما أنت في علمي ، فيكون كما علم وشاء ، لأنه كان معلوما غير مخلوق ، فصار معلوما مخلوقا كما قال وشاء وعلم .
ويقال للجهمي : ألست مقرا بأن الله تعالى إذا أراد شيئا قال له : كن فكان .
فيقول : لا أقول ، إنه يقول فيرد كتاب الله ، ويكفر به ويقول : لا ، ولكنه
[ ص: 197 ] إذا أراد شيئا كان ، فيقال له : يريد أن تقوم القيامة ، أن يموت الناس كلهم ، وأن يبعثوا كلهم ، فيكون ذلك بإرادته قبل أن يقال فيكون .
وقال الجهمي : إن الله لم يتكلم قط ، ولا يتكلم أبدا .
وقيل له : من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟
ومن القائل :
فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .
ومن القائل :
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .
ومن القائل :
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون .
ومن القائل :
يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ؟
ومن القائل :
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ؟
ومن القائل :
إنه أنا الله العزيز الحكيم .
ومن القائل :
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟
[ ص: 198 ]
في أشباه لهذا تكثر على الإحصاء من مخاطبة الله عز وجل ، فيقول الجهمي : إن الله عز وجل يخلق يوم القيامة لكل إنسان حسابا ، فقيل للجهمي : هذا الخلق هو غير الله ؟ فقال : نعم .
قيل له : فيقول الله لهذا الخلق : أخبر الناس بأعمالهم ؟ فقال : لا يقول له ، إن قلت إنه يقول ، فقد تكلم ، فقلنا : من أين يعلم هذا الخلق ما قد أحصاه الله من أعمال بني
آدم والغيب لا يعلمه إلا الله ؟ فعند ذلك يتبين كفر الجهمي .
ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر ابتغاء الفتنة ، فقال : إن الله عز وجل يقول :
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم فعيسى كلمة الله
وعيسى مخلوق .
فقيل للجهمي : جهلك بكتاب الله وقبيح تأويلك قد صار بك إلى صنوف الكفر ، وجعلك تتقلب في فنون الإلحاد ، فكيف ساغ لك أن تقيس
عيسى بالقرآن ؟
وعيسى قد جرت عليه ألفاظ وتقلبت به أحوال لا يشبه شيء منها أحوال القرآن . منها : أن
عيسى حملته أمه ووضعته وأرضعته ، فكان وليدا ، ورضيعا ، وفطيما ، وصبيا ، وناشئا وكهلا وحيا ناطقا ، وماشيا وذاهبا ، وجائيا وقائما ، وقاعدا ، ويصوم ويصلي ، وينام ويستيقظ ، ويأكل الطعام ويشرب ، ويكون منه ما يكون من الحيوان إذا أكل وشرب .
[ ص: 199 ]
وبذلك أخبرنا الله تعالى عنه تكذيبا للنصارى حين قالوا فيه القول الذي يضاهي قولك أيها الجهمي ، فقال :
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ، فكنى بالطعام عن خروج الحدث ، وهو مع هذا مخاطب بالتعبد وبالسؤال والوعد والوعيد ، ومحاسب يوم القيامة ، وأخبرنا أنه حي وميت ومبعوث ، فهل سمعت الله عز وجل وصف القرآن بشيء مما وصف
عيسى ؟ فأما قوله عز وجل :
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم قوله :
كن ، فكان
عيسى بقوله :
كن ، وكذا قال عز وجل :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، ثم أتبع ذلك بما يزيل عنه وهم المتوهم ، فقال :
الحق من ربك فلا تكن من الممترين ، فكلمة الله قوله :
كن والمكون
عيسى عليه السلام ، والجهمي حريص على إبطال صفات ربه لإبطال آنيته ومما يدعيه الجهمي أنه حجة له في خلق القرآن قوله :
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك .
[ ص: 200 ]
فقال الجهمي : فهل يذهب إلا مخلوق ؟ وكما قال :
فإما نذهبن بك ، فالقرآن يذهب كما ذهب صلى الله عليه وسلم ، فأفحش الجهمي في التأويل وأتى بأنجس الأقاويل ، لأن قول الله :
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك لم يرد أن القرآن يموت كما تموت ، إنما يريد : ولئن شئنا لنذهبن بحفظه عن قلبك وتلاوته عن لسانك .
أما سمعت ما وعد به من حفظه للقرآن حين يقول :
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ، فلو أذهب الله القرآن من القلوب ، لكان موجودا محفوظا عند من استحفظه إياه ، ولئن ذهب القرآن في جميع الخلق وأمات الله كل قارئ له ، فإن القرآن موجود محفوظ عند الله وفي علمه ، وفي اللوح المحفوظ .
أما سمعت قول الله عز وجل :
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
وقوله عز وجل :
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .