51 - : فأقول على اعتباره : 52 - ينبغي أن يفتى بأن ما يقع في بعض أسواق القاهرة من خلو [ ص: 318 ] الحوانيت لازم ، ويصير الخلو في الحانوت حقا له ; فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ، ولا إجارتها لغيره ، ولو كانت وقفا .
وقد وقع في حوانيت الجملون بالغورية أن السلطان الغوري لما بناها أسكنها للتجار بالخلو وجعل لكل حانوت قدرا أخذه منهم ، وكتب ذلك بمكتوب الوقف
( 51 ) قوله فأقول على اعتباره : ينبغي أن يفتى بأن ما يقع في بعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازما ، ويصير الخلو في الحانوت حقا له قيل عليه : كيف ينبغي أن يفتى به مع كونه مخالفا للقواعد الشرعية الشريفة ؟ ( انتهى ) .
وقال شيخنا في الرسالة المسماة بمفيدة الحسنى لدفع ظن الخلو بالسكنى بعد أن نقل كلام المصنف رحمه الله .
( 52 ) قوله : ينبغي إلخ : مما لا ينبغي فإنه لا مماثلة بين ما اعتبر من المسائل المبنية على عرف الخاص وبين الخلو ; لأن اعتبار العرف الخاص على ما قيل به في جميع تلك المسائل ضررها التزم به فاعلها مختارا لنفسه أو مقتصرا في استيفاء شرط يمنع عنه الضرر ، وأما الوقف فناظره لا يملك إتلافه ولا تعطيله .
أقول : ولا الوقف ، هذا هو [ ص: 318 ] الفرق الجلي ، وقد ثبت أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص فكيف يقول لا يمكن صاحب الحانوت إخراج صاحب الخلو منها ولا يمكنه إجارتها لغيره ، ولو كانت وقفا أليس هذا حجرا على الحر المكلف عما يملكه شرعا بما لم يقل به صاحب المذهب ؟
ومن المقرر أن حفظ المال من الكليات الخمس المجمع عليها في سائر الأديان .
ويمنع المالك من إجارة ملكه بلزوم إتلاف ماله ، ولم يأذن به الشارع مثل ما لو رضي بالربا مع غيره وكرضاه بقفيز الطحان ، وبعض عمله أجرة هو ممنوع منه شرعا ، ومن المقرر أن صاحب الخلو لا يعطي أجرة الأشياء يسيرا ويأخذ هو في نظير خلوه قدرا كثيرا ، يجوز هذا حتى في الوقف .
وقد نص على أن من سكن في الوقف يلزم أجرته بالغا ما بلغت ، وبمنعه الناظر من إجارة الحانوت الوقف لغير صاحب الخلو يفوت نفع الوقف ، وينعدم غلته ويتعطل ما جعله الواقف من نحو إقامة شعائر مسجد بدفع أجرة الدكان مثلا للقائم بها فإن صاحب الخلو إذا لم يستأجر بأجرة المثل للوقف ، وقد لا يستأجر ولا يسكن غيره ، يضيع نفع الوقف لما لم يقل به إمام المذهب ، ولا أحد من أهل مذهبه .
ثم قال : هذا ما ظهر لي في رد جواز الخلو باعتبار العرف الخاص عند أئمتنا الأعلام .
وأما ظن مشروعيته بلفظ السكنى فلا التفات إليه بوجه لا خاص ولا عام ( انتهى ) .
قوله : وأما ظن مشروعيته بلفظ السكنى أشار به إلى الرد على محمد بن بلال الحنفي حيث صنف رسالة في جواز الخلو أخذا مما نص عليه في جامع الفصولين في الفصل السادس عشر وغيره نقلا عن الذخيرة والفتاوى الكبرى والخلاصة وفتاوى nindex.php?page=showalam&ids=16808قاضي خان [ ص: 319 ] وواقعات الضريري : اشترى سكنى وقف فقال المتولي ما أذنت له بالسكنى فأمره بالرفع فلو اشتراه بشرط القرار فله الرجوع على بائعه ، وإلا فلا يرجع عليه بثمنه ولا بنقصانه ( انتهى ) .
قال تقي الدين بن معروف الزاهد : هذا نقل صريح في جواز بيع الخلو المتعارف في زماننا ولزومه فليتأمل .
قال بعض الفضلاء : وقد وقع عن بعض الفضلاء نزاع في ذلك فاستفتيت المولى الأعظم مفتي دار السلطنة السليمانية مولانا أبا السعود تغمده الله بغفرانه فأيد كلام محرره بقوله : نقل صريح في جواز بيع الخلو فضلا عن كونه نقلا صريحا فإن كنت في ريب من ذلك فعليك بالرجوع إلى الكتب الفقهية إذ المراد من السكنى ليس ما توهموه بل المراد بها العمارة فلا دلالة فيه على جواز بيع الخلو ، فضلا عن كونه نقلا صريحا فإن كنت في ريب من ذلك فعليك بالرجوع إلى الكتب الفقهية فلعلك تجد فيها ما يرفع دغدغة قلبك ، ثم إن المرحوم الأستاذ المذبور نور الله تعالى مرقده رأينا كثيرا من فتاواه على خلاف ما نقله هذا القائل ( انتهى ) .
أقول : دعوى أن السكنى العمارة ممنوع بل المراد السكنى الدكان ما يكون من الخشب مركبا فيها ، يدل على ذلك ما ذكره العمادي في الفصل الحادي عشر في شهادات الجامع : إذا ادعى سكنى دار أو حانوت وبين حدوده لا يصح ; لأن السكنى نقلي فلا يحدد .
وذكر رشيد الدين في فتاويه : وإن كان السكنى نقليا لكن لما اتصل بالأرض اتصال تأييد كان تعريفه بمثابة تعريف الأرض ; لأن في سائر النقليات لا يكون تعريفه بالحدود ; لأن النقل ممكن فوقع الاستغناء بالإشارة إليه عن ذكر الحدود .
وأما السكنى فلا يمكن ; لأنه مركب في البناء تركيب فراد فالتحق بما لا يمكن نقله أصلا ( انتهى ) .
فظهر لك بهذا أن السكنى هو ما يكون مركبا في الحانوت متصلا به فهو اسم عين لا اسم معنى كما فهمه البعض .
وليس في كلامهم ما يفيد ما توهمه هذا البعض .
وهل يجوز الاستدلال ببعض كلام لا يعلم منه مراد المتكلم ألا ترى تمام العبادة الذي نص فيها على حقيقة السكنى أنه شيء مركب يرفع ، فهل يستفاد من هذا المعنى المعبر عنه بالخلو بظن أن [ ص: 320 ] الخلو يرفع ثم يرد على بائعه ويقال : فلو اشتراه بشرط القرار فيرجع على بائعه بثمنه ويرد عليه ، وإلا فلا يرجع بثمنه ولا نقصانه الحاصل بالقلع من الدكان سبحانك هذا بهتان عظيم .
قيل : فإن كان المراد بالخلو في عبارته ما هو المتعارف من أنه اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها فهو نص في المسألة والله تعالى أعلم .
أقول ما نقله عن واقعات الضريري من ذكر لفظة الخلو فضلا عن أن يكون المراد بها ما هو المتعارف كذب ، فإن الثقات من النقلة كصاحب الجمع بين الفصولين نقل عبارات واقعات الضريري ولم يذكر فيها لفظ الخلو كيف ، وقد ذكر العراقي من المالكية أن مسألة الخلو لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لها ؟ وسيأتي قريبا .
وقد اشتهر نسبة مسألة الخلو إلى مذهب عالم المدينة nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس .
والحال أن ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من أصحابه ، حتى قال البدر العراقي إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض بمسألة الخلو فيما أعلم ، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي بناها على العرف ، وخرجها عليه وهو من أهل التخريج فيعتبر تخريجه ، وإن نوزع فيه وقد اشتهرت فتياه في المشارق والمغارب ، وتلقاها علماء عصره بالقبول وهبت عليها نسيمات الصبا والقبول ولنذكر صور السؤال والجواب والله الهادي للصواب .
ونص الجواب الحمد لله رب العالمين نعم إذا مات شخص وعليه دين ، ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفى من خلو حانوته والله سبحانه أعلم بالصواب ( انتهى ) .
ثم إن حقيقة الخلو كما قاله العلامة نور الدين علي الأجهوري المالكي في باب العارية من [ ص: 321 ] شرح مختصر الشيخ خليل إنه اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها ( انتهى ) .
وظاهره سواء كانت تلك المنفعة عمارة كأن يكون في الوقت أماكن آيلة إلى الخراب فيكريها ناظر الوقف لمن يعمرها ويكون ما صرفه خلوا له ويصير شريكا للواقف بما زادته عمارته .
مثلا لو كانت الأماكن قبل العمارة بنصف كل يوم وصارت بعدها تكترى بثلاثة أنصاف فيكون صاحب الخلو شريكا بالثلث والثلثين ، فإذا احتاجت تلك المحلات إلى عمارة كان على الواقف في تلك الصورة مثلا الثلث ، وعلى صاحب الخلو الثلثان ، أو كانت المنفعة غير عمارة كوقيد مصباح مثلا ولوازمه لا خصوص العمارة خلافا لمن خص المنفعة بها دون غيرها إذ المعتبر إنما هو عود الدراهم لمنفعته في الوقت ، كأن يكون في الوقف عمارة كانت أو غيرها وسواء كان الإذن في ذلك للواقف أو للناظر خلافا لمن خصه بالواقف ; وأما ما يدفع من خلو الحوانيت لمن هو مستأجر كل شهر بكذا ، فقد قال فيه بعضهم : إن من ملك المنفعة ملكه نظرا لكون العقد صحيحا فالمستأجر قد ملك المنفعة ، وحينئذ فله أخذ الخلو ويورث عنه وأما كونه إجارة لازمة فهذا لا نزاع فيه ووجهه أن الواقف لما يريد أن يبني محلا للوقف فيأتي له إناس يدفعون له دراهم على أن يكون لكل شخص محل من تلك المواضع التي يريد الواقف بناءها فإذا قبل منهم تلك الدراهم فكأنه باعهم تلك الحصة بما دفعوه له ، وكأنه لم يقف جزءا من تلك الحصة التي لكل ، وغايته أنه وظف عليهم كل شهر كذا فليس للواقف فيه بعد ذلك تصرف إلا بقبض الحصة الموظفة فقط وليس له أن يوجهه لغيره ، وكأن رب الخلو صار شريكا للواقف في تلك الحصة .
وشروط صحة الخلو أن يكون ما بذل من الدراهم عائدا على جهة الوقف بأن ينتفع بها فيه فما يفعل الآن من أخذ الناظر الدراهم ممن في يده الخلو ، ويصرفها في مصالح نفسه هو بحيث لا يعود على الوقف منها شيء ويجعل لدافعها خلوا في الوقف .
فهذا الخلو غير صحيح ويرجع الدافع بدراهمه على الناظر ، وأن لا يكون للوقف ريع يعمر منه ، فإن كان يفي بعمارته ومصاريفه كأوقاف الملوك الكثيرة الريع صرف منه على مصالحه ومنافعه ، ولا يصح فيه حينئذ خلو .
فلو وقع ذلك كان باطلا وللمستأجر الرجوع على الناظر بما دفعه من الدراهم ; لأنه ينزع منه على شرط ، ولم يتم لظهور عدم صحة خلوه ، وأن يثبت ذلك الصرف على منافع الوقف بالوجه الشرعي فلو صدقه الناظر على الصرف من غير ثبوت [ ص: 322 ] ولا ظهور عمارة إن كانت هي المنفعة فلا عبرة بهذا التصديق ; لأن الناظر لا يقبل قوله في مصرف الوقف حيث كان لذلك الوقف شاهد .
وفائدة الخلو أنه كالملك فتجري عليه أحكامه من بيع ، وإجارة وهبة ورهن ووفاء دين ، وإرث ووقف على الخلاف في الأخير .
وهذه الأمور تؤخذ من فتوى الناصر اللقاني حيث جعله كالملك ، ومنه يعلم أنه لا مانع من تعدد الخلوات إذ الملك يتعدد وقد سئل عن هذا كله العلامة شهاب الدين أحمد الشهوري المالكي فأجاب بما لفظه : الخلوات الشرعية يصح وقفها ويكون لازما مبرما مع شروط اللزوم كالجواز وانتفاء المانع كالدين كوقف صحيح الإملاك .
ويجب العمل بذلك ورهنه ، وإجارته وعاريته والمعاوضة عليه ، كل ذلك صحيح ، ولواقفه أن يجعله مؤبدا أو موقتا على معين فقط أو عليه وعلى ذريته أو على جهة من جهات الخير كوقود مصباح وتفريق خبز وتسبيل ماء ونحو ذلك ، مما ينص عليه الواقف ويراه ، ويشترط فيه ، مما يجوز له اشتراطه من الأمور الجائزة كل ذلك عملا بما أفتى به خاتمة المحققين أعلم علماء المسلمين الشيخ ناصر الدين اللقاني في جواب ما سئل عنه ( انتهى ) .
وخالف العلامة الأجهوري في صحة وقف الخلو ، وقال ببطلانه ، وأما أجرته فصحح وقفها ، لكن الذي شاع وذاع وملأ الأرض والبقاع وأكب الناس على مقتضاه والعمل بمضمونه وفحواه ما أفتى به العلامة الشيخ أحمد الشهوري من صحة وقف الخلو ، وجرى به العمل كثيرا في سائر الممالك ، سيما في الديار المصرية فينبغي اعتماد صحته ارتكابا لأخف الضررين ، لما يلزم على الحكم ببطلانه من ضياع أموال الناس وتفاقم الأمر بينهم وكثرة الخصام المؤدي للتقاطع والتدابر المنافيين لأخوة الإسلام ، فهذا مما عمت به البلوى فينبغي أن لا يفتى بالبطلان لما علمته سيما إن كان موقوفا على خيرات كتفرقة خبز وتسبيل ماء ووفاء دين ، وإعانة على حج ونحو ذلك من أنواع البر والقرب ، إذ ببطلانه يبطل ما ذكر والله تعالى أعلم .
هذا خلاصة ما حرره بعض فضلاء المالكية في تأليف مستقل في ذلك والله الهادي إلى أقوم المسالك .
وإنما أطلنا الكلام في هذا المقام لكثرة دوران الخلو بين الأنام ، واحتياج كثير من القضاة إليها ، وابتناء كثير من الأحكام عليها خصوصا قضاة الأروام الذين ليس لهم شعور ولا إلهام .