[ ص: 122 ] فصل .
175 - قد أجرينا الخلع والانخلاع في أدراج الباب ، والإحاطة بالفصل بينهما من أعظم مقاصد الكتاب ، فنقول والله المستعان ، وهو رب الأرباب .
الجنون المطبق الذي لا يرجى زواله يتضمن الانخلاع بالإجماع ولا حاجة إلى إنشاء خلع ورفع ، وكيف يتوقع ذلك ، والمجنون مولى عليه في نفسه ؟ وعين جنونه يوجب اطراد الحجر عليه في خاصته ، فكيف يقدر إماما إلى اتفاق جريان خلعه ؟ فالجنون كالموت إذا ، وإذا بقي مكلفا ، ولكن عراه خبل وعته مأيوس الزوال ، بحيث لا يحتاج في دركه إلى اجتهاد وافتكار ونظر واعتبار ، فهذا عندي نازل منزلة الجنون الذي يتضمن الانخلاع بنفسه .
176 - فأما الفسق المؤثر ، فالقول فيه ينقسم : فإن كان يحتاج في إظهار خلله إلى اجتهاد ، فلا نقضي بأنه يتضمن الانخلاع
[ ص: 123 ] بنفسه ، بل الأمر فيه مفوض إلى نظر الناظرين ، واعتبار المعتبرين .
177 - وإذا أسر الإمام وسقطت طاعته كما سبقت صفته ، فلا بد من إنشاء الخلع .
178 - فالقول الضابط في ذلك أن ما ظهر وبعد زواله ، فهو موجب الانخلاع ، وما احتيج فيه إلى نظر وعبر ، لم يتضمن بنفسه انخلاعا ، ووقوع الإمام في الأسر وإن كان مقطوعا به لا أراه مقتضيا انخلاعا ، فإن فرض فكه مما يتعلق بالاختيار والإيثار من آسريه ، ولو قدر ذلك قبل خلعه كان إماما . فمن هذه الجهة لا ينخلع المأسور ما لم يخلع .
[ ص: 124 ] 279 - فالذي يقتضي الانخلاع سبب ظاهر لا خفاء به ، ويبعد ارتقاب زواله ، ولا يقدر تعلق زواله باختيار مختار ، وإيثار مؤثر ، فما كان كذلك ، فإنه يتضمن الانخلاع ، كالجنون المزيل للتكليف إذا استحكم ، والعته والخبل الذي يظهر خلله من غير احتياج إلى نظر ، ويكون مأيوس الزوال ، وكل سبب يحتاج في إظهار خلله إلى نظر . فإن اقتضى خلعا فهو إلى الناظرين كما سنذكره في خاتم الفصل إن شاء الله عز وجل .
180 - وإن ظهر السبب كالأسر ، وارتقب ارتفاعه باختيار ، فهو ما يقتضي إنشاء الخلع ، ولا يوجب الانخلاع ، وكذلك سقوط الطاعة .
181 - فإن قيل : كان
عثمان - رضي الله عنه - إذا حوصر في الدار ساقط الطاعة ، فما قولكم في إمامته مدة بقائه إلى أن استشهد ؟ ؟ .
[ ص: 125 ] قلنا كان إماما إلى أن أدركته سعادة الشهادة ، وما كان سقوط الطاعة مأيوس الزوال ، وإنما حاصره شرذمة من الهمج الأرذال ، ونزاع القبائل ، وكان يرى - رضي الله عنه - المتاركة والاستسلام والإذعان لحكم الله تعالى ، ولم يؤثر أن يراق بسببه محجمة دم ، حتى قال لغلمانه : " من ألقى سلاحه ، فهو حر " فلم تجر محاصرته مجرى الأسر المقدم تصويره .
182 - فإن قيل : رددتم في أثناء الكلام ذكر ما يتعلق بنظر الناظرين مما يوجب الخلع فأبينوه واذكروا المعني بالنظر .
قلنا : لم نرد بالنظر ما يجر غلبات الظنون ، كنظر المجتهدين في فنون المظنونات ، ولو كان الأمر الطارئ مجتهدا فيه لم يسغ خلع الإمام به قطعا ، فلنثبت هذا أصلا في الباب ، فإن الاجتهادات
[ ص: 126 ] بجملتها لا وقع لها بالإضافة إلى الإمام ، وهو يستتبع المجتهدين أجمعين ، ولا يتبع أحدا ، وإنما عنينا بالنظر مزيد فكر وتدبر من أهله ، يفيد العلم والقطع باختلال أمور المسلمين ، بسبب ما طرأ من فسق ، أو خبل .
183 - فإن قيل : قد قدمتم أن وجه خلع الإمام نصب إمام ذي عدة ، فما ترتيب القول في ذلك ؟ .
قلنا : الوجه خلع المتقدم ، ثم نصب الثاني ، ثم الثاني يدفعه دفعه للبغاة ، كما سبق تقريره .
فإن قيل : فمن يخلعه ؟ .
قلنا : الخلع إلى من إليه العقد ، وقد سبق وصف العاقدين بما فيه مقنع ، وبلاغ تام .
وقد ذهب بعض من لم يخبر هذه الحقائق إلى أنا نشترط الإجماع في الخلع ، وإن لم نشترطه في العقد . وهذا زلل عظيم ؛ فإن الحاجة قد ترهق إلى الخلع ، ولو انتظر وفاق علماء الآفاق ، لاتسع الخرق ، وعظم الفتق . نعم لا بد في الخلع والعقد من اعتبار شوكة ،
[ ص: 127 ] وقد أوضحنا كيفية اعتبارها في البابين .
184 - والآن كما انتهى مقصدنا في هذه الفنون ، وقد جرت بيمن أيام صدر الإسلام كهف الأنام على رمزة ، لم يعهد مثلها ، ولم يجر في تصانيف المتقدمين شكلها ، ونبهت على دقائق لم يخطر للغواصين فرعها وأصلها ، على أني لم أذكر - والله - إلا أطرافا ، ولم أقصد إلا استطرافا ، فإن كتاب الإمامة ليس مقصودي في هذا المجموع ، وحق التابع أن يوجز ، ونؤخر جمام الكلام إلى المتوقع .