[ ص: 164 ] الباب السادس .
في
إمامة المفضول .
242 - اختلف الخائضون في هذا الفن ، في إمامة المفضول ، على آراء متفاوتة ، ومذاهب متهافتة ، ولو ذهبت أذكر المقالات وأستقصيها ، وأنسبها إلى قائليها وأعزيها ، لخفت خصلتين : إحداهما : خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها ، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها ، وهي سرد فصل منقول ، عن كلام المتقدمين مقول .
وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال ، والتشييع بعلوم الأوائل ، والإغارة على مصنفات الأفاضل ، وحق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفا ، وجمعا ، وترصيفا ، أن يجعل مضمون كتابه أمرا لا يلفى في مجموع ، وغرضا لا يصادف في تصنيف ، ثم إن لم يجد بدا من ذكرها أتى به في معرض التذرع والتطلع إلى ما هو المقصود والمعمود ، فهذه واحدة .
[ ص: 165 ] والخصلة الثانية : اجتناب الإطناب ، وتنكب الإسهاب في غير مقصود الكتاب .
243 - فأعود وأقول : ذهبت طوائف منهم
الزيدية إلى تصحيح عقد الإمامة للمفضول على الإطلاق والإرسال ، من غير استفصال ، والذي يتعين الوقوف عليه في صدر الباب ، أن الذي يقع التعرض له من الفضل ، والقول في الفاضل والمفضول ، ليس هو على أعلى القدر والمرتبة وارتفاع الدرجة ، والتقرب إلى الله تعالى في عمله ، فرب ولي من أولياء الله هو قطب الأرض ، وعماد العالم ، لو أقسم على الله لأبره ، وفي العصر من هو أصلح للقيام بأمور المسلمين منه ، فالمعني بالفضل استجماع الخلال التي يشترط اجتماعها في المتصدي للإمامة .
فإذا أطلقنا الأفضل في هذا الباب عنينا به الأصلح للقيام
[ ص: 166 ] على الخلق بما يستصلحهم . وهذا تنبيه على معنى التفضيل ، وسيأتي مشروحا في أثناء الباب على التفصيل إن شاء الله - عز وجل .
244 - فإذا تقرر ذلك ، فقد صار طوائف من أئمتنا إلى تجويز عقد الإمامة للمفضول ، مع التمكن من العقد للأفضل الأصلح ، واعتلوا بأن المفضول إذا كان مستجمعا للشرائط المرعية ، فاختصاص الفاضل بالمزايا اتصاف بما لا تفتقر الإمامة إليه ، فإذا عقدت الإمامة لمن ليس عاريا عن الخلال المعتبرة ، استقلت بالصفات التي لا غنى عنها ولا مندوحة ، وليس للفضائل نهاية وغاية .
245 - وذهب معظم المنتمين إلى الأصول من جلة الأئمة إلى أن الإمامة لا تنعقد للمفضول مع إمكان العقد للفاضل ، ثم تحزب هؤلاء حزبين ، وتصدعوا صدعين : فذهب فريق إلى أن مدرك ذلك القطع ، وصار فريق إلى أن المسألة من المظنونات التي لا يتطرق إليها أساليب العقول ، ولا قواطع الشرع المنقول .
[ ص: 167 ] 246 - ومسلك الحق المبين ، ما أوضحه الآن للمسترشد المستبين .
فأقول : لا خلاف أنه إذا عسر عقد الإمامة للفاضل ، واقتضت مصلحة المسلمين تقديم المفضول ، وذلك لصغو الناس ، وميل أولي البأس والنجدة إليه ، ولو فرض تقديم الفاضل لاشرأبت الفتن ، وثارت المحن ، ولم نجد عددا ، وتفرقت الأجناد بددا ، فإذا كانت الحاجة في مقتضى الإيالة تقتضي تقديم المفضول ، قدم لا محالة ; إذ الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة ، فإذا كان في تقديم الفاضل اختباطها وفسادها ، وفي تقديم المفضول ارتباطها وسدادها ، تعين إيثار ما فيه صلاح الخليقة باتفاق أهل الحقيقة ، ولا خلاف أنه لو قدم فاضل ، واتسقت له الطاعة ، ونشأ في الزمن من هو أفضل منه ، فلا يتبع عقد الإمامة للأول بالقطع والرفع .
247 - فإذا وضح ما ذكرته فأقول : إن تهيأ لأهل الاختيار تقديم الفاضل من غير مانع مدافع ،
[ ص: 168 ] وتحقق الاستكمان من ترشيح الأصلح ، فيجب القطع ، والحالة هذه بإيجاب تقديم الأفضل الأصلح ، والذي يحقق ذلك أن الإمام إذا تصدى له مسلكان في مهم ألم ، وخطب أعضل وادلهم ، وتحقق أن أحدهما لو آثره واختاره ، لعمت فائدته وعائدته ، وعظم وقعه نفعا ودفعا ، ولو سلك المسلك الثاني ، لم يكن بعيدا في مقتضى الاختيار من مدارك الرشاد ، ولا جارا إضرارا ، فلا خلاف بين المسلمين أجمعين ، أنه يتعين تقديم الأنفع ، وإذا كان يتحتم ذلك في الأمور الجزئية على الإمام المطاع على أقصى ما يستطاع ، فلأن يجب على أهل الاختيار أن يؤثروا الأكمل والأفضل أولى ، فإن مزيد الكفاية ، ومزية الهداية والدراية ، ليس هين الأثر ، قريب الوقع ، فلا ارتياب في إيجاب تحصيل ذلك للمسلمين ، إذا سهل مدركه ، ولم يتوعر مسلكه .
248 - ولكن قد تقدم أن الإمامة لا تنعقد في اختيارنا إلا بعقد من يستعقب عقده منعة وشوكة للإمام المعقود له ، بحيث
[ ص: 169 ] لا يبعد من الإمام أن يصادم بها من نابذه وناواه ، ويقارع من خالفه وعاداه ، وإذا فرض العقد للمفضول على هذا الوجه ، ففي الحكم بأن الإمامة غير منعقدة له فتن ثائرة ، وهيجان نائرة ، وقد يهلك فيها أمم ، ويصرع الأبطال الذين هم نجدة الإسلام ، على السواعد واللمم ، ولا يفي ما كنا نترقبه من مزايا الفوائد ، بتقديم الفاضل بما نحاذره الآن من تأخير المفضول ، وقد قدمنا أن المصلحة إذا اقتضت تقديم المفضول ، قدمناه .
249 - فآل حاصل الكلام ومنتهى المرام ، إلى أنا نقطع بتحريم
تقديم المفضول مع التمكن من تقديم الفاضل ، ولكن إذا اتفق تقديم المفضول واختياره ، مع منعة تتحصل من مشايعة أشياع ، ومتابعة أتباع ، فقد نفذت الإمامة نفوذا لا يدرأ . وإن جرى العقد من غير منعة فالإمامة للفاضل عندي لا تنعقد على هذا الوجه . فما الظن بالمفضول ؟ وهذا مشكل عظيم بينته ، وسر جسيم في الإيالة أعلنته ، ولا يحظى - والله - بهذا الكتاب إلا
[ ص: 170 ] من وافقه التوفيق ، وساوقه التحقيق ، فكم فيه من عقد في مشكلات فضضتها ، وأبكار من بدائع المعاني افتضضتها ، فإذا وضح القول في إمامة الفاضل والمفضول ، فأنا وراء ذلك أقول :
250 - قد تقدم في صدر الباب أن الأفضل هو الأصلح ، فلو فرضنا مستجمعا للشرائط بالغا في الورع الغاية القصوى ، وقدرنا آخر أكفأ منه ، وأهدى إلى طرق السياسة والرياسة ، وإن لم يكن في الورع مثله ، فالأكفأ أولى بالتقدم .
ولو كان أحدهما أفقه ، والثاني أعرف بتجنيد الجنود ، وعقد الألوية والبنود ، وجر العساكر والمقانب ، وترتيب المراتب والمناصب ، فلينظر ذو الرأي إلى حكم الوقت ، فإن كانت أكناف خطة الإسلام إلى الاستقامة ، والممالك منتفضة عن ذوي العرامة ، ولكن ثارت بدع وأهواء ، واضطربت مذاهب ومطالب وآراء ، والحاجة ماسة إلى من يسوس الأمور الدينية أمس ، فالأعلم أولى .
[ ص: 171 ] 251 - وإن تصورت الأمور على الضد مما ذكرناه ، ومست الحاجة إلى شهامة وصرامة ، وبطاش ، يحمل الناس على الطاعة ولا يحاش ، فالأشهم أولى بأن يقدم .
والآن كما وضح المقال ، وزال الإشكال ، فلنختم الكلام ، ولنخض في الباب الذي يليه .