[
منزلة فروض الكفايات ]
509 - ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات ، وأعلى [ في ] فنون القربات من فرائض
[ ص: 359 ] الأعيان فإن ما تعين على المتعبد المكلف ، لو تركه ، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام ، اختص المأثم به ، ولو أقامه ، فهو المثاب .
ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات ، فالقائم به كاف نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب ، وآمل أفضل الثواب ، ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام لمهم من مهمات الدين .
510 - ثم ما يقضى عليه بأنه من فروض الكفايات ، قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات ، فإن من مات رفيقه في طريقه ، ولم يحضر موته غيره ، تعين عليه القيام بغسله ودفنه وتكفينه .
ومن عثر على بعض المضطرين وانتهى إلى ذي مخمصة من المسلمين ، واستمكن من سد جوعته ، وكفاية حاجته ولو
[ ص: 360 ] تعداه ، ووكله إلى من عداه ، لأوشك أن يهلك في ضيعته ، فيتعين على العاثر عليه القيام بكفايته .
511 - وأقرب مثال إلى ما نحاول الخوض فيه - الجهاد ، فهو في وضع الشرع مع استقرار الكفار في الديار من فروض الكفايات ، ولو فرض من [ هو من ] أهل القتال في الصف ، وعدد الكفار غير زائد على الضعف ، ثم آثر بعد الوقوف للمناجزة المحاجزة والانصراف من غير تحرف لقتال ، أو تحيز إلى فئة ، فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ، فيصير ما كان فرضا على الكفاية متعينا بالملابسة .
وقد قال العلماء ليس للرجل أن يخرج إلى صوب الجهاد على الاستبداد ، دون إذن الوالدين ، ولو خرج ( 191 ) دونهما كان عاقا ، مخالفا لأمر الله مشاقا ، ولو خرج من غير استئذان وانغمس في القتال ، لما التقى الصفان فليس له أن يرجع الآن ، وإن لم يتقدم منه استئذان ، وكان خروجه على وجه العقوق والعصيان . .
[ ص: 361 ] وكذلك العبد القن ، ليس له أن يخرج إلى الجهاد دون إذن مولاه ، فلو استقل بنفسه وخرج ، كان شاردا آبقا متمردا على مالك رقه ، تاركا ما أوجب الله من رعاية حقه .
وهو في حركاته وسكناته ، وتردداته في جميع تاراته ، وحالاته معرض لسخط الله ، وسوء عقابه ، ثم لو تمادى على إباقه وشراده ، ووقف في الصف على استبداده ، تعينت عليه المصابرة ، حتى تضع الحرب أوزارها .
فهذه جمل قدمنا تذكارها ، وأنا أوضح الآن مواقعها وآثارها ، فأقول : 512 - قد تحقق أن صدر الورى ، وكهف الدين والدنيا ، احتمل أعباء الملة وأثقالها ، وتقلد أشغالها ، وجردت إليه الخليقة آمالها ، جررت إليه الأماني أذيالها ، وربطت ملوك الأرض بعالي رأيه [ سلمها ] وقتالها ، ووفاقها وجدالها ، وواصلت البرية في اللياذ به غدوها وآصالها .
ولو آثر الإيداع أياما معدودة لبدلت الاستقامة أحوالها وزلزلت الأرض زلزالها ، وأبدت غوائل الدهر
[ ص: 362 ] أهوالها ، وبلغ الأمر مبلغا يعسر فيه التدارك ، ولا يرجى معه التماسك .
513 - فإذا كان يجب على العبد الآبق إذا لابس القتال ووقف في صف الأبطال أن يصابر ، ويستقر ويثابر ، لأنه لو انصرف لأفضى انصرافه ، وانعطافه إلى إهلاك الجند ، وانحلال العقد .
514 - ثم إذا كثر الجمع في صف الإسلام ، فقد يقل أثر واحد ينسل وينفك ، وربما ( 192 ) لا يستبين له وقع ، ولا يظهر لوقوفه في نظر العقل نفع ولا دفع ، إذا كانت بنود الإسلام نحو مائة ألف مثلا ، أو يزيدون ، ولكن حسم الشرع سبيل الانصراف والانكفاف ، فإن تسويغ الانفلال للواحد يؤدي إلى تسويغه لغيره ، وهذا يتداعى إلى خروج الأمر عن الضبط ، إذ النفوس تتشوف إلى الفرار من مواطن الردى ، وتتنكب أسباب التوى .
515 - فإذا تقرر ذلك من حكم الشريعة فمن وقف في الاستقلال بمهمات المسلمين والذب عن حوزة الدين ، موقف من هو في الزمان
[ ص: 363 ] صدر العالمين ، ولو فرض - والعياذ بالله - تقاعده عن القيام بأمر الإسلام ، لانقطع قطعا سلك النظام ، فلأن تجب عليه المصابرة ، مع العلم بأنه لا يسد أحد في عالم الله مسده بعده ، وقد أضحى للدين وزرا ، وعدة وانتدب للسنة ، والإسلام جنة وحده - أولى . .
516 - فخرج من ترديد المقال في هذا المجال ، والاستشهاد بالأمثال قول مبتوت ، لا مراء فيه ، ولا جدال في أنه يجب على صدر الدين قطعا من غير احتمال - الاستثبات على ما يلابسه من الأحوال .
وأنا أتحدى علماء الدهر فيما أوضحت فيه مسلك الاستدلال ، فمن أبدى مخالفة فدونه والنزال في مواقف الرجال .
وهو قول أضمن الخروج عن عهدته في اليوم الجم الأهوال ، إذا حقت المحاقة في السؤال ، من الملك المتعال ، ذي الجلال
[ ص: 364 ] ثم قربات العالمين ، وتطوعات المتقربين ، لا توازي وقفة من وقفات من تعين عليه بذل المجهود في الذب عن الدين .