باب القول في السنة المسموعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسموعة من غيره عنه
السنة على ضربين : ضرب يؤخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مشافهة وسماعا ، فهذا يجب على كل أحد من المسلمين قبوله واعتقاده ، على ما جاء به من وجوب وندب ، وإباحة وحظر ، ومن لم يقبله فقد كفر ، لأنه كذبه في خبره ، ومن كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به فقد ارتد ، وتجب استتابته ، فإن تاب وإلا قتل .
وضرب : يؤخذ خبرا عنه ، والكلام فيه في موضعين ، أحدهما : في إسناده ، والآخر : في متنه .
فأما الإسناد : فضربان : تواتر ، وآحاد . فأما التواتر : فضربان : أحدهما : تواتر من طريق اللفظ ، والآخر تواتر من طريق المعنى .
فأما التواتر من طريق اللفظ : فهو مثل الخبر بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من
مكة إلى
المدينة ، ووفاته بها ، ودفنه فيها ، ومسجده ، ومنبره ، وما روي من تعظيمه الصحابة ، وموالاته لهم ، ومباينته لأبي جهل ، وسائر المشركين ، وتعظيمه القرآن ، وتحديهم به ، واحتجاجه بنزوله ، وما روي من عدد الصلوات وركعاتها وأركانها
[ ص: 277 ] وترتيبها ، وفرض الزكاة والصوم والحج ، ونحو ذلك .
وأما التواتر من طريق المعنى : فهو أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم ، كل واحد منهم حكما غير الذي يرويه صاحبه ، إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدا ، فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظا ، مثال ذلك : ما روى جماعة كثيرة عمل الصحابة بخبر الواحد ، والأحكام مختلفة ، والأحاديث متغايرة ، ولكن جميعها يتضمن العمل بخبر الواحد العدل ، وهذا أحد طرق معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه روي عنه تسبيح الحصى في يديه ، وحنين الجذع إليه ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وجعله الطعام القليل كثيرا ، ومجه الماء من فمه في المزادة ، فلم ينقصه الاستعمال ، وكلام البهائم له ، وما أشبه ذلك مما يكثر تعداده .
إذا ثبت هذا ، فإن عدد الجماعة الذين يقع العلم بخبرهم غير معلوم ، ولا دليل على عددهم من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، لكنا نعلم أن العدد القليل لا يوجب خبرهم العلم ، وخبر العدد الكثير يوجبه ، ويجب أن يكونوا قد علموا ما أخبروا به ضرورة ، وأن يكونوا على صفة لا يقع منهم الكذب اتفاقا ، ولا تواطؤا بتراسل ، أو حمل حامل برغبة أو رهبة ، لأنا نعلم أن العلم لا يقع بخبر جماعة يجوز عليهم ذلك .
وخبر الآحاد : ما انحط عن حد التواتر ، وهو ضربان : مسند ، ومرسل .
[ ص: 278 ] فأما المسند فضربان : أحدهما : يوجب العلم ، وهو على أوجه : منها : خبر الله سبحانه ، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومنها : أن يحكي رجل بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، ويدعي علمه فلا ينكره عليه فيقطع به على صدقه .
ومنها : أن يحكي - رجل شيئا بحضرة جماعة كثيرة ، ويدعي علمهم به فلا ينكرونه ، فيعلم بذلك صدقه .
ومنها :
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول فيقطع بصدقه سواء عمل به الكل أو عمل به البعض ، وتأوله البعض .
فهذه الأخبار توجب العمل ويقع بها العلم استدلالا .
وأما الضرب الثاني من المسند : فمثل الأخبار المروية في كتب السنن الصحاح ، فإنها توجب العمل ، ولا توجب العلم ، وقال قوم من أهل البدع : لا يجوز العمل بها ، ونحن نذكر الحجة عليهم وفساد مقالتهم بمشيئة الله ومعونته .
[ ص: 279 ]