باب الكلام في : استصحاب الحال
استصحاب الحال ضربان : أحدهما : استحباب حال العقل .
والثاني : استصحاب حال الإجماع .
فأما استصحاب حال العقل فهو : الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل ، وذلك طريق يفزع المجتهد إليه عند عدم أدلة الشرع ، مثاله : أن يسأل شافعي عن الوتر فيقول : ليس بواجب ، فإذا طولب بدليل يقول : لأن طريق وجوبه الشرع ، وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع فلم أجد ، فوجب أن لا يكون واجبا ، وأن تكون ذمته بريئة منه كما كانت قبل ، فإن قال السائل : ما تنكر أن يكون الدليل موجودا ، وأنت مخطئ في الطلب ، وتارك للدليل الموجب ، قال له : لا يجب علي أكثر من الطلب ، وإذا لم أجد لزمني تبقيه الذمة على البراءة كما كانت .
وهذا كلام صحيح ليس يلزمه الانتقال عن استصحاب الحال إلا بدليل شرعي ينقله عنه ، فإن وجد دليلا من أدلة الشرع انتقل عنه سواء كان ذلك الدليل نطقا أو مفهوم نص أو ظاهرا ، لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي ، فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده .
[ ص: 527 ] والضرب الثاني : استصحاب حال الإجماع ، مثل أن يقول الشافعي ، في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته أنه يمضي فيها ، لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته ، فيجب أن يستصحب هذه الحال ، بعد رؤية الماء ، حتى يقوم دليل ينتقل عنه لأجله .
وقد اختلف أهل العلم في هذا : فمنهم من قال هو دليل كما أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث ، أو تيقن الحدث ثم شك في الطهارة ، أو تيقن النكاح وشك في الطلاق ، أو تيقن الملك وشك في العتق ، أن اليقين لا يزول بالشك ، ويكون حكم السابق مستداما في حال الشك فكذلك هاهنا .
ومنهم من قال : ليس بدليل ، لأن الدليل هو الإجماع ، والإجماع إنما حصل قبل رؤية الماء ، فإذا رأى الماء ، فقد زال الإجماع فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع ، في موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما .
[ ص: 528 ]