فصل
إذا اعترض أحد الخصمين على الآخر بشيء يخالف أصله فله أن يرده بأصله ، وله أن يرده بمعنى نظري أو فقهي ، قال الله تعالى : (
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
فأخبر الله تعالى بقول السفهاء - وهو سفهاء قريش - وقيل : اليهود - وأنهم سألوا عن علة ذلك فأجابهم بما بنى عليه أفعاله من كونه مالكا غير مملك أو غير مأمور لا يدخل تحت رسم ولا حد ، ولا يسأل عما يفعل ، لأنه إنما يسأل عن فعله من هو تحت حد أو رسم ، فكأنه تعالى قال : إذا كنت مالك الشرق والغرب أتصرف في ملكي فما موضع المسألة لم نفلت عبيدي ، وهذا هو الجواب النظري رده بأصله وموجب قعيدة أمره ، فسقط السؤال ولم يلزمه أن يبين لم فعل ذلك ، ثم لما ثبت ذلك أجاب بجواب فقهي عن المسألة فقال وقل لهم أيضا : (
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) يقول تعالى : إنما أمرتك أن تصلي إلى
البيت المقدس ليصلوا معك على ما ألفوه من الصلاة إلى
بيت المقدس ، ثم نقلتك إلى الكعبة لتعلم أنت ، وتخبر من صلى معك إلى
بيت المقدس ، تبعا لك وطاعة لأمرك وقبولا منك ، فإنه ينتقل معك لما التزمه من الطاعة ، ومن صلى إلى
بيت المقدس ، لكونه شريعة له لا لطاعتك ،
[ ص: 109 ] فإنه لا يتحول معك ، بل يقيم على الصلاة إلى بيت المقدس ، فتعلم أنت أنه منقلب على عقبيه وينكشف لك أنه لم يكن مطيعا لك ولا تابعا ، فبين علة الجواب وعلة التحويل ، ثم أجاب بجواب آخر ، وهو أنه ذكر جواز النسخ في القبلة وغيرها ، فقال : (
وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) ، يقول : وإن كان انتقالهم من المنسوخ إلى الناسخ ثقيلا عليهم شاقا في ترك المألوف المعتاد الذي قد نشؤوا عليه إلى ما لم يألفوه .
وهذا أحد العلل في
جواز النسخ على من أنكره .
فهذه أجوبة سؤالهم ، وقد بينا موضعها من النظر .
وأفضل النظار وأقدرهم من أجاب عن السؤال بجواب نظري يحرس به قوانين النظر وقواعده ، ثم يجيب بجواب يبين فيه فقه المسألة .
[ ص: 110 ]