[فصل]
وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا، فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال، وأقوال دلت على نهاية الذكاء، وكمال الفطنة كما ينقل من حكمة
سقراط ،
وأبقراط ،
وأفلاطون ،
وأرسطا طاليس ،
وجالينوس ، وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية، ومنطقية، وطبيعية، واستخرجوا بفطنهم أمورا خفية، إلا أنهم لما تكلموا في الإلهيات خلطوا، ولذلك اختلفوا فيها، ولم يختلفوا في الحسيات، والهندسيات، وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم، وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة، والرجوع فيها إلى الشرائع، (وقد حكي ) لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع، ويدفعون الشرائع، ويعتقدونها نواميس وحيلا، فصدقوا فيما حكي لهم عنهم، ورفضوا شعار الدين، وأهملوا الصلوات، ولابسوا المحذورات، واستهانوا بحدود الشرع، وخلعوا ربقة
[ ص: 49 ] الإسلام، فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم، لأنهم يدعون النظر في الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء، أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة، (وما قد حكي ) لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال، فإن أكثر القوم يثبتون الصانع، ولا ينكرون النبوات، وإنما أهملوا النظر فيها، وشذ منهم قليل، فتبعوا
الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة، وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير، فلا هم يعملون بمقتضاه، ولا بمقتضى الإسلام، بل فيهم من يصوم رمضان، ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق، وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد، ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر، فأضر به، فهو عامة زمانه في تسخط على الأقدار، والاعتراض على المقدر حتى قال لي بعضهم: أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك، وكان يقول أشعارا كثيرة في هذا المعنى، فمنها قوله في صفة الدنيا قال:
أتراها صنعة من غير صانع أم تراها رمية من رام
وقوله:
واحيرتا من وجود ما تقدمه منا اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه في عماء ما يخلصنا منه ذكاء ولا عقل ولا شرس
ونحن في ظلمة ما إن لها قمر فيها يضيء ولا شمس ولا قبس
مدلهين حيارى قد تكنفنا جهل يجهمنا في وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل والقول فيه كلام كله هوس