صفحة جزء
وصية الخطاب بن المعلى المخزومي ابنه

أخبرني محمد بن المنذر بن سعيد ، حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، حدثني عبد الرحمن بن أبي عطية الحمصي، عن الخطاب بن المعلى المخزومي القرشي أنه وعظ ابنه، فقال: "يا بني، عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنب محارمه باتباع سنته ومعالمه حتى تصح عيوبك، وتقر عينك؛ فإنها لا تخفى على الله خافية، وإني قد وسمت لك وسما، ووضعت لك رسما، إن أنت حفظته، ووعيته، وعملت به ملأت أعين الملوك، وانقاد لك به الصعلوك، ولم تزل مرتجى مشرفا يحتاج إليك، ويرغب إلى ما في يديك، فأطع أباك، واقتصر على وصية أبيك، وفرغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبك، وإياك وهذر الكلام، وكثرة الضحك والمزاح، ومهازلة الإخوان؛ فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشحناء، وعليك بالرزانة والتوقر، من غير كبر يوصف منك، ولا خيلاء تحكى عنك، والق صديقك وعدوك بوجه الرضى، وكف الأذى من غير ذلة لهم، ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أوساطها، وقلل الكلام، وأفش السلام، وامش متمكنا قصدا، ولا تخط برجلك، ولا تسحب ذيلك، ولا تلو عنقك، ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفاف، ولا تقف على الجماعات، ولا تتخذ السوق مجلسا، ولا الحوانيت متحدثا، ولا تكثر المراء، ولا تنازع السفهاء، فإن تكلمت فاختصر، وإن مزحت فاقتصر، وإذا جلست فتربع، وتحفظ من تشبيك أصابعك، وتفقيعها، والعبث بلحيتك وخاتمك وذؤابة سيفك [ ص: 199 ] وتخليل أسنانك، وإدخال يدك في أنفك، وكثرة طرد الذباب عنك، وكثرة التثاؤب، والتمطي، وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك، ويغتمزون به فيك.

وليكن مجلسك هاديا، وحديثك مقسوما، وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك بغير إظهار عجب منك، ولا مسألة إعادة، وغض عن الفكاهات من المضاحك، والحكايات، ولا تحدث عن إعجابك بولدك، ولا جاريتك، ولا عن فرسك، ولا عن سيفك، وإياك وأحاديث الرؤيا؛ فإنك إن أظهرت عجبا بشيء منها طمع فيها السفهاء، فولدوا لك الأحلام، واغتمزوا في عقلك، ولا تصنع تصنع المرأة، ولا تبذل تبذل العبد، ولا تهلب لحيتك، ولا تبطنها، وتوق كثرة الحف، ونتف الشيب، وكثرة الكحل، والإسراف في الدهن، وليكن كحلك غبا، ولا تلح في الحاجات، ولا تخشع في الطلبات، ولا تعلم أهلك وولدك - فضلا عن غيرهم - عدد مالك، فإنهم إن رأوه قليلا هنت عليهم، وإن كان كثيرا لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك، وتجنب عن عجلتك، وتفكر في حجتك، وأر الحاكم شيئا من حلمك، ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا تحفز على ركبتيك، وتوق حمرة الوجه وعرق الجبين، وإن سفه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك، فتكلم، وأكرم عرضك، وألق الفضول عنك، وإن قربك سلطان فكن منه على حد السنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن من انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبي، وكلمه بما يشتهي، ولا يحملنك ما ترى من إلطافه إياك وخاصته بك أن تدخل بينه وبين أحد من ولده، وأهله، وحشمه، وإن كان لذلك منك مستمعا، وللقول منك مطيعا؛ فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعة لا تنهض، وزلة لا تقال، وإذا وعدت [ ص: 200 ] فحقق، وإذا حدثت فاصدق، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الأصم، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخير محاسن القول بالحديث المقبول، وإذا حدثت بسماع فانسبه إلى أهله، وإياك الأحاديث العابرة المشنعة التي تنكرها القلوب، وتقف لها الجلود، وإياك ومضعف الكلام مثل: نعم نعم، ولا لا، وعجل عجل، وما أشبه ذلك، وإذا توضأت فأجد عرك كفيك، وليكن وضعك الحرض من الأشنان في فيك كفعلك بالسواك، ولا تنخع في الطست، وليكن طرحك الماء من فيك مترسلا، ولا تمج فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعض نصف اللقمة، ثم تعيد ما بقي منها منصبغا؛ فإن ذلك مكروه، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك، ولا تعبث بالمشاش، ولا تعب شيئا مما يقرب إليك على مائدة بقلة خل، أو تابل، أو عسل، فإن السحابة قد صيرت لنفسها مهابة، ولا تمسك إمساك المثبور، ولا تبذر تبذير السفيه المغرور، واعرف في مالك واجب الحقوق، وحرمة الصديق، واستغن عن الناس يحتاجوا إليك، واعلم أن الجشع يدعو إلى الطبع، والرغبة كما قيل تدق الرقبة، ورب أكلة تمنع أكلات، والتعفف مال جسيم، وخلق كريم، ومعرفة الرجل قدره تشرف ذكره، ومن تعدى القدر هوى في بعيد القعر، والصدق زين، والكذب شين، ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله، ومعاداة الحليم خير من مصادقة الأحمق، ولزوم الكريم على الهوان خير من صحبة اللئيم على الإحسان، ولقرب ملك جواد خير من مجاورة بحر طراد، وزوجة السوء الداء العضال، ونكاح العجوز يذهب بماء الوجه، وطاعة النساء تزري بالعقلاء.

تشبه بأهل العقل تكن منهم، وتصنع للشرف تدركه، [ ص: 201 ] واعلم أن كل امرئ حيث وضع نفسه، وإنما ينسب الصانع إلى صناعته، والمرء يعرف بقرينه، وإياك وإخوان السوء؛ فإنهم يخونون من رافقهم، ويحزنون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم من استكمال الأدب، واستخفار المستجير لؤم، والعجلة شؤم، وسوء التدبير وهن.

والإخوان اثنان: فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلاء، وتجنب صديق العافية؛ فإنهم أعدى الأعداء.

ومن اتبع الهوى مال به الردى، ولا يعجبنك الجهم من الرجال، ولا تحقر ضئيلا كالخلال؛ فإنما المرء بأصغريه: قلبه، ولسانه، ولا ينتفع به بأكثر من أصغريه.

وتوق الفساد، وإن كنت في بلاد الأعادي، ولا تفرش عرضك لمن دونك، ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك، ولا تكثر الكلام، فتثقل على الأقوام، وامنح البشر جليسك، والقبول ممن لاقاك.

وإياك وكثرة التبريق والتزليق؛ فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث، وإياك والتصنع لمغازلة النساء، وكن متقربا متعززا منتهزا في فرصتك، رفيقا في حاجتك، متثبتا في حملتك، والبس لكل دهر ثيابه، ومع كل قوم شكلهم.

واحذر ما يلزمك اللائمة في آخرتك، ولا تعجل في أمر حتى تنظر في عاقبته، ولا ترد حتى ترى وجه المصدر.

وعليك بالنورة في كل شهر مرة، وإياك وحلاق الإبط بالنورة، وليكن السواك من طبيعتك، وإذا استكت فعرضا، وعليك بالعمارة؛ فإنها أنفع التجارة، وعلاج الزرع خير من اقتناء الضرع، ومنازعتك اللئيم تطمعه فيك، ومن أكرم عرضه أكرمه الناس، وذم الجاهل إياك أفضل [ ص: 202 ] من ثنائه عليك، ومعرفة الحق من أخلاق الصدق، والرفيق الصالح ابن عم، ومن أيسر أكبر، ومن افتقر احتقر، قصر في المقالة مخافة الإجابة، والساعي إليك غالب عليك، وطول السفر ملالة، وكثرة المنى ضلالة، وليس للغائب صديق، ولا على الميت شفيق، وأدب الشيخ عناء، وتأديب الغلام شقاء، والفاحش أمير، والوقاح وزير، والحليم مطية الأحمق، والحمق داء لا شفاء له، والحلم خير وزير، والدين أزين الأمور، والسماجة سفاهة، والسكران شيطان، وكلامه هذيان، والشعر من السحر، والتهدد هجر، والشح شقاء، والشجاعة بقاء، والهدية من الأخلاق السرية، وهي تورث المحبة، ومن ابتدأ المعروف صار دينا، ومن المعروف ابتداء من غير مسألة، وصاحب الرياء يرجع إلى السخاء، ولرياء بخير خير من معالنة بشر، والعرق نزاع، والعادة طبيعة لازمة إن خير فخير، وإن شرا فشر، ومن حل عقدا احتمل حقدا، ومراجعة السلطان خرق بالإنسان، والفرار عار، والتقدم مخاطرة، وأعجل منفعة إيسار في دعة، وكثرة العلل من البخل، وشر الرجال الكثير الاعتلال، وحسن اللقاء يذهب بالشحناء، ولين الكلام من أخلاق الكرام.

يا بني، إن زوجة الرجل سكنه، ولا عيش له مع خلافها، فإذا هممت بنكاح امرأة، فسل عن أهلها، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة.

واعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف، فتوق منهن كل ذات بذا، مجبولة على الأذى، فمنهن المعجبة بنفسها، المزرية ببعلها، إن أكرمها رأته لفضلها عليه، لا تشكر على جميل، ولا ترضى منه بقليل، لسانها عليه سيف صقيل، قد كشفت القحة ستر الحياء عن وجهها، فلا تستحي من إعوارها، ولا تستحي من جارها، كلبة هرارة، مهارشة عقارة، فوجه زوجها مكلوم، [ ص: 203 ] وعرضه مشتوم، ولا ترعى عليه لدين ولا الدنيا، ولا تحفظه لصحبة ولا لكثرة بنين، حجابه مهتوك، وستره منشور، وخيره مدفون، يصبح كئيبا، ويمسي عاتبا، شرابه مر، وطعامه غيظ، وولده ضياع، وبيته مستهلك، وثوبه وسخ، ورأسه شعث، إن ضحك فواهن، وإن تكلم فمتكاره، نهاره ليل، وليله ويل، تلدغه مثل الحية العقارة، وتلسعه مثل العقرب الجرارة.

ومنهن شفشليق شعشع سلفع، ذات سم منقع، وإبراق واختلاق، تهب مع الرياح، وتطير مع كل ذي جناح، إن قال: لا، قالت: نعم، وإن قال: نعم، قالت: لا، مولدة لمخازيه، محتقرة لما في يديه، تضرب له الأمثال، وتقصر به دون الرجال، وتنقله من حال إلى حال، حتى قلا بيته، ومل ولده، وغث عيشه، وهانت عليه نفسه، وحتى أنكره إخوانه، ورحمه جيرانه.

ومنهن الورهاء الحمقاء: ذات الدل في غير موضعها، الماضغة للسانها، الآخذة في غير شأنها، قد قنعت بحبه، ورضيت بكسبه، تأكل كالحمار الراتع، تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت، ولم يكنس لها بيت، طعامها بائت، وإناؤها وضر، وعجينها حامض، وماؤها فاتر، ومتاعها مزروع، وماعونها ممنوع، وخادمها مضروب، وجارها محروب.

ومنهن العطوف الودود، المباركة الولود، المأمونة على غيبها، المحبوبة في جيرانها، المحمودة في سرها وإعلانها، الكريمة التبعل، الكثيرة التفضل، الخافضة صوتا، النظيفة بيتا، خادمها مسمن، وابنها مزين، وخيرها دائم، وزوجها ناعم، موموقة مألوفة، وبالعفاف والخيرات موصوفة.

[ ص: 204 ] جعلك الله يا بني ممن يقتدي بالهدى، ويأتم بالتقى، ويجتنب السخط، ويحب الرضى.

والله خليفتي عليك، والمتولي لأمرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد نبي الهدى، وعلى آله وسلم تسليما كثيرا".

التالي السابق


الخدمات العلمية