صفحة جزء
236 - فصل

وقولهم : " وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا فرق شعر ولا في مراكبهم "

هذا أصل الغيار ، وهو سنة سنها من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ، وجرى عليها الأئمة بعده في كل عصر ومصر ، وقد تقدمت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو القاسم الطبري في سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب استعمال الغيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته صغارا وذلا وشهرة وعلما عليهم ؛ ليعرفوا من المسلمين في زيهم ولباسهم ولا يتشبهوا بهم : " وكتب عمر إلى الأمصار أن تجز نواصيهم ، وألا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا " .

[ ص: 1263 ] وعن عمر بن عبد العزيز مثله .

قال : " وهذا مذهب التابعين وأصحاب المقالات من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين " . ثم ساق من طريق [ الفريابي ] : حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن حسان بن عطية ، عن أبي منيب الجرشي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما [ ص: 1264 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله لا يشرك به ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " . رواه الإمام أحمد في " مسنده " .

قال أبو القاسم : " هذا أحسن حديث روي في الغيار ، وأشبه بمعناه وأوجه في استعماله لما ينطق لفظه بمعناه ومفهومه بما يقتضي فحواه من قوله : " وجعل الذل والصغار على من خالف أمري " فأهل الذمة أعظم خلافا لأمره وأعصاهم لقوله ، فهم أهل أن يذلوا بالتغيير عن زي المسلمين الذين أعزهم الله بطاعته وطاعة رسوله من الذين عصوا الله ورسوله فأذلهم وصغرهم وحقرهم حتى تكون سمة الهوان عليهم فيعرفوا بزيهم .

ودلالته ظاهرة في وجوب استعمال الغيار على أهل الذمة في قوله صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " ومعناه إن شاء الله أن المسلم يتشبه بالمسلم في زيه فيعرف أنه مسلم ، والكافر يتشبه بزي الكافر فيعلم أنه كافر ، فيجب أن يجبر الكافر على التشبه بقومه ليعرفه المسلمون به ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير " . وسأله رجل : أي الإسلام خير ؟ قال : " تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .

[ ص: 1265 ] وقد نهى أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام ، وأمر إذا سلم أحدهم علينا أن نقول له : " وعليكم " .

وإذا كان هذا من سنة الإسلام فلا بد أن يكون لأهل الذمة زي يعرفون به حتى يمكن استعمال السنة في السلام في حقهم ، ويعرف منه المسلم من سلم عليه ، هل هو مسلم يستحق السلام أو ذمي لا يستحقه ؟ وكيف يرد عليهم ؟ وقد كتب عمر إلى الأمصار " أن تجز نواصيهم " يعني أهل الكتاب ، " وألا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا " .

قلت : ما ذكره من أمر السلام فائدة من فوائد الغيار وفوائده أكثر من ذلك .

فمنها أنه لا يقوم له ولا يصدره في المجلس ، ولا يقبل يده ، ولا يقوم لدى رأسه ، ولا يخاطبه بأخي وسيدي ووليي ونحو ذلك ، ولا يدعى له بما يدعى به للمسلم من النصر والعز ونحو ذلك ، ولا يصرف إليه من أوقاف المسلمين ولا من زكواتهم ، ولا يستشهده تحملا ولا أداء ، ولا يبيعه عبدا مسلما ، ولا يمكنه من المصحف وغير ذلك من الأحكام المختصة بالمسلمين ، فلولا النهي لعامله ببعض ما هو مختص بالمسلم .

فهذا من حيث الإجمال ، وأما من حيث التفصيل ففي شروط عمر [ ص: 1266 ] رضي الله عنه : " وألا نتشبه بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة " فيمنعون من لباسها لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يلبسونها ، ولم يزل لبسها عادة الأكابر من العلماء والفقهاء والقضاة والأشراف والخطباء على الناس ، واستمر الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الصلاحية فرغب الناس عنها .

وقد روى العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن ابن عمر : كان للنبي قلنسوة بيضاء لاطئة يلبسها .

وكان لعلي رضي الله عنه قلنسوة بيضاء يلبسها .

وذكر سفيان عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة ولا على القلنسوة .

وقالت أم نهار : كان أنس يمر بنا في كل جمعة على برذون عليه قلنسوة لاطئة .

[ ص: 1267 ] فإنما نهى عمر رضي الله عنه أهل الذمة عن لبسها ؛ لأنها زي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده وغيرهم من الخلفاء بعده ، وللمسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة وقدوة ، فالخلفاء يلبسونها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتشبها به وهم أولى الناس باتباعه واقتفاء أثره ، والعلماء يلبسونها إذا انتهوا في علمهم وعزهم وعظمت منزلتهم واقتدى الناس بهم فيتميزون بها للشرف على من دونهم لما رفعهم الله بعلمهم على جهلة خلقه ، والقضاة تلبسها هيبة ورفعة ، والخطباء تلبسها على المنابر لعلو مقامهم ؛ فيمنع أهل الذمة من لباس القلنسوة لعدم وجود هذه المعاني فيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية