[ ص: 1354 ] 262 - فصل
[ إذا
نقضوا ما شرطوا على أنفسهم نقض عهدهم ]
قالوا : " ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا ، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا ، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق " .
هذا اللفظ صريح في أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم ، كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء .
قال شيخنا : وهذا هو القياس الجلي ، فإن الدم مباح بدون العهد ، والعهد عقد من العقود ، فإذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن ينفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه ، هذا أصل مقرر في عقد البيع والنكاح [ والهبة ] وغيرهما من العقود ، والحكمة فيه ظاهرة ، فإنه إنما [ التزم ما ] التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه ، فإذا لم [ يلتزم ] له الآخر صار هذا غير ملتزم ، فإن الحكم المعلق بالشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء ، وإنما اختلفوا في ثبوت مثله .
إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون
[ ص: 1355 ] الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط ، بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا [ أو صفة ] في البيع - وإن كان حقا له
[ أو ] لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها - لم يجز له إمضاء العقد ، بل ينفسخ العقد بفوات الشرط ويجب عليه فسخه ، كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء ، أو شرطت أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا ، أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية .
وعقد الذمة ليس هو حقا للإمام ، بل هو حق لله ولعامة المسلمين ، فإذا
خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل : يجب على الإمام أن يفسخ العقد ، وفسخه أن يلحقه بمأمنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه .
قال : وهذا ضعيف ؛ لأن الشروط إذا كانت حقا لله - لا للعاقد - انفسخ العقد بفواته من غير فسخ .
[ وهذه الشروط ] على
أهل الذمة حق لله ، لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ، ويمكنهم من المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها ، وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن .
[ ص: 1356 ] قلت : واختلف العلماء
فيما ينتقض به العهد وما لا ينتقض ، وفي هذه الشروط هل يجري حكمها عليهم وإن لم يشترطها إمام الوقت اكتفاء بشرط
عمر رضي الله عنه ، أو لا بد من اشتراط الإمام لها في حكمهم إذا انتقض عهدهم ؟ فهذه ثلاث مسائل :
[ ص: 1357 ] المسألة الأولى
فيما ينقض العهد وما لا ينقضه .
ونحن نذكر مذاهب الأئمة وما قاله أتباعهم في ذلك
ذكر قول
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وأصحابه :
قد ذكرنا نصوصه في انتقاض العهد بالزنى بالمسلمة .
ذكر قوله في انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم :
قال
الخلال ( باب
فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم )
[ ص: 1358 ] أخبرني
عصمة بن عصام قال : حدثنا
حنبل قال : سمعت
أبا عبد الله يقول : كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو انتقصه - مسلما كان أو كافرا - فعليه القتل .
أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=14451زكريا بن يحيى ، حدثنا
أبو طالب : أن
أبا عبد الله سئل عن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقتل ؛ قد نقض العهد .
ثم ذكر من طريق
حنبل وعبد الله : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، حدثنا
هشيم ، أخبرنا
حصين عمن حدثه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : أنه مر به راهب فقيل له : هذا يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : لو سمعته لقتلته أنا ، لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال
حنبل : وسمعت
أبا عبد الله يقول : كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ، ليس على هذا أعطوا العهد والذمة .
ثم ذكر
الخلال الآثار عن الصحابة في قتله .
ثم قال : أخبرني
محمد بن علي أن
أبا الصقر حدثهم قال : سألت
[ ص: 1359 ] أبا عبد الله عن رجل من
أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا عليه ؟ قال : إذا قامت البينة عليه ؛ يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا .
أخبرني
حرب قال : سألت
أحمد عن رجل من
أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يقتل .
ذكر قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من
أهل الذمة :
قال
الخلال ( باب
فيمن تكلم في شيء من ذكر الرب تبارك وتعالى يريد تكذيبا أو غيره )
أخبرني
عصمة بن عصام ، حدثنا
حنبل قال : سمعت
أبا عبد الله قال : كل من ذكر شيئا يعرض به بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا . قال : وهذا مذهب
أهل المدينة .
أخبرني
منصور بن الوليد أن
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد حدثهم قال : سمعت
أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له : كذبت ، فقال : يقتل ؛ لأنه شتم النبي صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 1360 ] قال شيخنا : وأقوال
أحمد كلها نص في وجوب قتله ، وفي أنه قد نقض العهد ، وليس عنه في هذا اختلاف .
وكذلك ذكر عامة أصحابه ، متقدمهم ومتأخرهم ، لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في " المجرد " ذكر الأشياء التي يجب على
أهل الذمة تركها وفيها ضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال ، وهي : الإعانة على قتال المسلمين ، وقتل المسلم والمسلمة ، وقطع الطريق عليهم ، وأن يؤوي على المسلمين جاسوسا ، وأن يعين عليهم بدلالة ، مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين ، وأن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح ، وأن يفتن مسلما عن دينه .
قال : فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط ، فإن خالف انتقض عهده ، وذكر نصوص
أحمد في نقضها مثل نصه في الزنى بمسلمة ، وفي التجسس للمشركين ، وقتل المسلم وإن كان [ عبدا ] - كما ذكر الخرقي - ثم ذكر نصه في قذف المسلم : على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف .
[ ص: 1361 ] قال :
[ فتخرج ] المسألة على روايتين ، ثم قال : وفي معنى هذه الأشياء ذكره الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي .
قال : فهذه أربعة أشياء ، الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ، ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن [ أتوا ] واحدة منها نقضوا الأمان ، سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن .
وكذلك قال في " التعليق " بعد أن ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال .
قال : وفيه رواية أخرى : لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية وجري أحكامنا عليهم .
ثم ذكر نص
أحمد على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب ، قال : فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه .
[ ص: 1362 ] وتبع القاضي جماعة من أصحابه ومن بعدهم
كالشريف [ أبي جعفر ]
وأبي الخطاب وابن عقيل والحلواني ، فذكروا أنه لا خلاف أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام الملة انتقض عهدهم ، وذكروا - في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها الضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم ، مثل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه - روايتين :
إحداهما : ينتقض العهد .
والأخرى : لا ينتقض عهده ويقام فيه الحد مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك .
[ ص: 1363 ] ثم إن القاضي والأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة ، مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف .
وأما
أبو الخطاب ومن تبعه فإنهم نقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف ، كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين ، ثم إن هؤلاء كلهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر ، وذكروا أن سابه يقتل وإن كان ذميا ، وأن عهده ينتقض ، وذكروا نصوص
أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن
الحلواني قال : ويحتمل ألا يقتل من سب الله ورسوله إذا كان ذميا .