[ ص: 262 ] المجلس الثاني والعشرون
في قصة سبإ
الحمد لله المتفرد بالعز والجلال ، المتفضل بالعطاء والإفضال ، مسخر السحاب الثقال ، مربي الزرع تربية الأطفال ، جل عن مثل ومثال ، وتعالى عن حكم الفكر والخيال ، قديم لم يزل ولا يزال ، يتفضل بالإنعام فإن شكر زاد وإن لم يشكر أزال
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال .
أحمده على كل حال ، وأصلي على رسوله
محمد أشرف من نطق وقال ، وعلى صاحبه
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق باذل النفس والمال ، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر الفاروق العادل فما جار ولا مال ، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان الثابت للشهادة ثبوت الجبال ، وعلى علي بحر العلوم وبطل الأبطال ، وعلى عمه
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس المقدم في نسبه على جميل الأهل والآل .
قال الله تعالى : لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال .
سبأ هي القبيلة التي هم من أولاد سبإ ، وكانت
بلقيس لما ملكت قومها تراهم يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته ، فلما كثر الشر بينهم أتوها فسألوها أن ترجع إلى ملكها فأبت ، فقالوا : لترجعن أو لنقتلك ، فقالت إنكم لا تطيعونني ، فقالوا : إنا نطيعك ، فجاءت إلى واديهم وكانوا إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة خمسة أيام ، فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدد أنهارهم ، فكان الماء يخرج منها بالسوية ، إلى أن أسلمت مع سليمان .
وقيل : إنما بنوا ذلك لئلا يغشى السيل أموالهم فتهلك ، فكانوا يفتحون من أبواب السد ما يريدون فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه ، وكانت لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله ، فأخصبت أرضهم وكثرت فواكههم ، وإن كانت المرأة لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تمس بيدها شيئا منه ، ولم يكن في بلدتهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث .
فبعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبيا وقيل لهم :
كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة [ ص: 263 ] أي هذه بلدة طيبة ، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي
ورب غفور أي والله رب غفور .
فأعرضوا عن الحق وكذبوا الأنبياء
فأرسلنا عليهم سيل العرم وفيه أربعة أقوال :
أحدها : أن العرم : الشديد ، رواه
ابن أبي طلحة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : إن العرم : السيل الذي لا يطاق .
والثاني : أنه اسم الوادي ، رواه
عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة والضحاك .
والثالث : أنه المسناة . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء وابن قتيبة ، وقال
أبو عبيدة ، العرم جمع عرمة وهي السكر والمسناة .
والرابع : أن العرم : الجرذ الذي نقب عليهم السكر ، حكاه الزجاج .
وفي صفة إرسال هذا السيل عليهم قولان :
أحدهما : أن الله تعالى بعث عليهم على سكرهم دابة فنقبته ، روى
nindex.php?page=showalam&ids=16574عطية العوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : بعث الله تعالى عليهم دابة من الأرض فنقبت فيه نقبا فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة والضحاك : بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد ، والخلد الفأر الأعمى ، فنقبه من أسفله فأغرق الله به جناتهم وخرب الله به أرضهم .
والثاني : أنه أرسل عليهم ماء أحمر فنسف السد وهدمه وحفر الوادي ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد .
قوله تعالى :
وبدلناهم بجنتيهم يعني اللتين كانتا تطعم الفواكه
جنتين ذواتي أكل خمط قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : (أكل). بالتنوين وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو (أكل) بالإضافة ، والأكل : الثمر ، وفي المراد بالخمط ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الأراك ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد والجمهور ، فعلى هذا أكله ثمره . وثمرة الأراك : البرير ، والثاني : أنه كل شجرة ذات شوك ، قاله
أبو عبيدة ، والثالث . أنه كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله ، قاله المبرد والزجاج ، فعلى هذا القول : الخمط : اسم للمأكول .
والأثل : الطرفاء ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقوله تعالى :
وشيء من سدر وهو شجر النبق ، والمعنى أنه كان الخمط والأثل في جنتهم أكثر من السدر .
ذلك جزيناهم بما كفروا أي ذلك التبديل جزيناهم بكفرهم
وهل نجازي إلا الكفور [ ص: 264 ] قال
طاوس : الكافر يجازى ولا يغفر له ، والمؤمن لا يناقش الحساب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى ، فيقال في أفصح اللغة : جزى الله المؤمن ولا يقال جازاه بمعنى كافأه ، والكافر يجازى سيئة مثلها مكافأة له ، والمؤمن يتفضل عليه .
قوله تعالى : وجعلنا بينهم هذا معطوف على قوله :
لقد كان لسبإ والمعنى من قصصهم أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها وهي قرى
الشام قرى ظاهرة أي متواصلة ينظر بعضها إلى بعض
وقدرنا فيها السير فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية ويرجعون فيبيتون في قرية ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن وقتادة ، والثاني : أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا قاله
ابن قتيبة .
قوله تعالى : سيروا فيها المعنى : وقلنا لهم سيروا فيها
ليالي وأياما أي ليلا ونهارا آمنين من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب .
فبطروا النعمة وملوها ، كما مل
بنو إسرائيل المن والسلوى
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير nindex.php?page=showalam&ids=12114وأبو عمرو بعد بين أسفارنا وقرأ نافع وعاصم
وحمزة والكسائي :
باعد روى
عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : بطروا عيشهم وقالوا : لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه .
وظلموا أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسل
فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بما فعل بهم
ومزقناهم كل ممزق أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق ، لأن الله تعالى لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تبددوا في البلاد وصارت العرب تتمثل في الفرقة بقوم سبإ يقولون : تفرقوا أيدي سبا .
وقد حذرت هذه القصة من الخلاف وبينت
عقاب تاركي الشكر .