الكلام على
قوله تعالى :
وجوه يومئذ ناعمة
كانت أقدامهم في الدجى قائمة ، وعيونهم ساهرة لا نائمة ، وقلوبهم على الطاعات عازمة ، وهذه أفعال النفوس الحازمة ، فوجبت لهم نجاة قطعية جازمة
وجوه يومئذ ناعمة .
[ ص: 344 ] وجوه طال ما غسلتها الدموع ، وجوه طال ما أذلها الخشوع ، وجوه أظهر عليها للاصفرار الجوع ، خاطرت في المهالك فأصبحت سالمة
وجوه يومئذ ناعمة .
وجوه أذعنت إذ عنت ولذت ، وجوه ألفت السجود فما ملت ، وجوه توجهت إلينا وعن غيرنا تولت ، زالت عنها فترة الهجر وتجلت ، فحلت غانمة .
سهرهم إلى الصباح قد أثر في الوجوه الصباح ، واقتناعهم بالخبز القفار والماء القراح ، قد عمل في الأجسام والأشباح ، وخوفهم من اجتراح الجناح قد صيرهم كمقصوص الجناح ، وعلى الحقيقة فكل الأرواح من الخوف هائمة .
تجري دموعهم في الخدود كالمياه في الأخدود ، وتعمل نار الحذر في الكبود فيتمنون عدم الوجود ، فهم بين الركوع والسجود ونصب الأقدام القائمة .
يتفكرون في السابقة ، ويحذرون من اللاحقة وكأنهم يتقون صاعقة ، أو كأن السيوف على أعناقهم بارقة ، يا شدة قلقهم من الخاتمة
وجوه يومئذ ناعمة .
قال المفسرون : معنى قوله تعالى :
ناعمة أي في نعمة وكرامة
لسعيها في الدنيا
راضية المعنى أنها رضيت ثواب عملها
في جنة عالية المنازل
لا تسمع فيها لاغية أي كلمة لغو .
قوله تعالى : فيها عين جارية .
طالما أطالوا البكاء في الليل ، تجري دموعهم جري السيل ، وتستبق في صحراء الخدود كالخيل ، وإنما يكال للعبد على قدر الكيل ، فإذا دخلوا الجنة فلكل عين جارية
فيها عين جارية .
جن الليل وهم قيام ، وجاء النهار وهم صيام ، وتورعوا قبل الكلام ، وسلموا على الدنيا لدار السلام ، فالبطون جائعة والأجساد عارية .
ائتزروا بمئزر القنوع ، وارتدوا برداء الخشوع ، واستلذوا بشراب الدموع ، ولولا صحو السهر والجوع ما بان عند الجبل هلال " يا سارية " .
قوله تعالى : فيها سرر مرفوعة قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والياقوت ، مرتفعة ما لم يجئ أهلها ، فإذا أراد صاحبها أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترفع .
[ ص: 345 ] وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : وفرش مرفوعة قال : " والذي نفسي بيده إن ارتفاعها كما بين السماء والأرض " . قوله تعالى : وأكواب موضوعة وهي الأباريق التي لا عرى ها ، موضوعة عندهم وإنما كانت بلا عرى لأن العروة ترد الشارب من جهتها وإنما تراد العروة ليمسك بها الإناء ، وقد قال أبو أمامة : إن الرجل ليشتهي الشراب فيجيء الإناء فيقع في يده فيشرب ثم يعود مكانه ، ثم هناك أباريق بعرى فقد جمع الشيئان لهم .
قوله تعالى : ونمارق مصفوفة وهي الوسائد واحدها نمرقة بضم النون والراء ونمرقة بكسرهما .
مصفوفة بعضها إلى جنب بعض
وزرابي وهي الطنافس لها خمل رقيق
مبثوثة كثيرة متفرقة .
يا غافلا عن هذه الدار ، يا راضيا عن الصفا بالأكدار ، البدار البدار ، سابق وقوع الموت قبل فوت الاقتدار ، ويحك أما ترى سلب الجار ، أما يشوقك مدح الأبرار ، أما تخاف الشين أما تحذر العار ، إلى كم هذا الجهل والنفار ، ما هذا التقاعد والمحق قد سار ، إن طوفان الهلاك قد دار حول الدار ، وإن خيرات الأسحار إذا رآها الطرف حار ، يا سكران الهوى قد قتل الخمار ، يا بصيرا هو أعمى
فإنها لا تعمى الأبصار .
روى
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=848771 " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه ألفي سنة ، وإن أفضلهم لمن ينظر في وجه الله عز وجل كل يوم مرتين " .
قال المفسرون : لما نعت الله عز وجل الجنة وما فيها عجب الكفار من ذلك فذكرهم صنعته وقدرته قال :
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : ذكر الله عز وجل ارتفاع سرر الجنة وفرشها فقالوا : كيف يصعد إليها ؟ فنزلت هذه الآية .
قال العلماء إنما خص الإبل بالذكر لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم يشاهد الفيل منهم إلا الشاذ ، ولأنها كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ، فيلاحظون فيها العبر الدالة على قدرة الخالق من عجائب خلقها ، وهي على عظمها مذللة للحمل
[ ص: 346 ] الثقيل ، وتنقاد للصبي الصغير ، وليس في ذوات الأربع ما يحمل وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها .
يا مقيما قد حان سفره ، يا من عساكر الموتى تنتظره ، سيعزل الصحة السقم ، وسيغلب الوجود العدم ، الساعات مراحل والموت ساحل ، البدار قبل فواته ، اجمع الزاد قبل شتاته :
إذا كنت أعلم علما يقينا بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون ضنينا بها
وأجعلها في صلاح وطاعه
كم أخلى الموت دارا ، كم ترك المعمور قفارا ، كم أوقد من الأسف نارا ، كم أذاق الغصص المرة مرارا ، لقد جال يمينا ويسارا ، فما حابى فقرا ولا يسارا ، أين الجيش العرمرم ، أين الكبير المعظم ، إن الزمان يقدح في يلملم ، ألحق أخيرا بمن تقدم وبنى يسيرا ثم هدم ، بينا يرى بحر الأمل لمن تيمم أتاه فرآه سرابا فتيمم .
أين الذين على عهد الثرى وطئوا وحكموا في لذيذ العيش فاحتكموا
وملكوا الأرض من سهل إلى جبل وخولوا نعما ما مثلها نعم
لم يبق منهم على ضن القلوب بهم إلا رسوم قبور حشوها رمم
ساروا إلى دار الجزاء على الأعمال ، رحل القوم فاسأل الأطلال ، وإنما كانت ففنيت آجال ، لا يجيبون داعيا ، القوم في اشتغال ، غالهم من البلى أقبح ما غال ، آلت أموالهم إلى أكف الآل ، بضع الأهل بضائعهم وقفلها إلى الأقفال ، وتلذذوا بكد غيرهم فسل سالبا عن شلشال ، هذا مصيركم عن قريب ما يمر على البال
وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال .
ومسندون تعاقروا كأس الردى ودعا بشربهم الحمام فأسرعوا
برك الزمان عليهم بجرانه وهفت بهم ويح الخطوب الزعزع
خرس إذا ناديت إلا أنهم وعظوا بما يزع اللبيب فأسمعوا
والدهر يفتك بالنفوس حمامه فلمن تعد كريمة أو تجمع
عجبا لمن يبقي ذخائر ماله ويظل يحفظهن وهو مضيع
ولغافل ويرى بكل ثنية ملقى له بطن الصفائح مضجع
أتراه يحسب أنهم ما أسأروا من كأسه أضعاف ما يتجرع
كأنكم بالأمور الفظيعة قد حلت وبالدنيا التي تولت قد تولت ، وبالنفس العزيزة عند
[ ص: 347 ] الموت قد ذلت ، ويحا كم أخطأت وكم قد زلت ، متى يقال لهذه الغمرة التي قد جلت قد تجلت ، عجبا لنفس كلما عقدنا نفعها حلت .
أوجز الدهر في العظات إلى أن جعل الصمت غاية الإيجاز
منطق ليس بالنثير ولا الشعـ ـر ولا في طرائق الرجاز
وعدتنا الأيام كل عجيب وتكون الوعود بالإنجاز
والليالي هوازئ راجعات في أبي جادها وفي هواز
أوعز الدهر بالفناء إلى الناس فواها لذلك الإيعاز
أعرضوا عن مدائح وتهان فالمرائي أولى بكم والتعازي
أحضروا قلوبكم للنصح والتواصي ، واحذروا يوم الأخذ بالنواصي ، تذكروا جمع الداني والقاصي ، أسمعت يا من يروح في المعاصي ويبكر
فذكر إنما أنت مذكر .
واعجبا كيف نحدث السكرى وقد ملأتهم الغفلة ، سكرى ما يعقلون إلا بطارق النكرا ، وكم تلي عليهم الوعظ ذكرى ، هيهات إنما تنفع الذكرى المتذكر .
أيها النصيح أترى المنصوح أصم ، بين له قبح ما قد جمع وضم ، فإن أفعاله جميعها توجب الذم ، ومتى رأيت النسيان للعواقب قد عم ، يا من يرى هواه الحاضر وينسى مولاه الناظر ، ولا ناصر له إلا الأخير ناصر ، علينا أن نقول تثبت وفكر ، كأنك بمذل القوي ومفقر الغني وموقظ الغبي وقاصم الفتى الفتي وما يأتي في زي متنكر .
كم أجرى الموت دمعا وابلا ورذاذا ، كم قطع البلاء صحيحا فجعله جذاذا ، كم من متجبر أذله فلم يجد منه معاذا ، أتعرف صحة هذا أم تنكر .
كم موعوظ زجر فارعوى ، كم فاسد وبخ فاستوى ، كم مستقيم بالوعظ بعدما التوى ، عادوا إلى الزلل بموافقة الهوى ، والمحنة أن الهوى يعكر
فذكر إنما أنت مذكر .
وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم .