صفحة جزء
المجلس الحادي والثلاثون

في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

الحمد لله الذي أصبحت له الوجوه ذليلة عانية ، وحذرته النفوس مجدة ومتوانية ، وعظ فذم الدنيا الحقيرة الفانية ، وشوق إلى جنة قطوفها دانية ، وخوف عطاش الهوى أن يسقوا من عين آنية ، أحمده على تقويم شانيه ، وأستعينه من شر شانئ وشانية . وأحصل بتحقيق التوحيد إيمانيه ، وأصلي على رسوله محمد صلاة ممهدة لعزة بانية ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق السابق في الوفاق والاتفاق وفي الدار والغربة في الغار ، أربع للفخر بانية ، وله فضيلة التخلل والتقلل والرأفة والخلافة ، صارت ثمانية ، وعلى عمر مقيم السياسة على كل نفس جانية ، وعلى عثمان الذي اختاره الرسول بعد ابنته للثانية ، وعلى علي المنزل فيه الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية وعلى عمه العباس المستسقى بشيبته فإذا أسباب الغيث والغوث دانية .

أخبرنا أبو القاسم الكاتب ، أنبأنا أبو علي التميمي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان ؟ قال : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ؟ ! " .

قال أحمد : وحدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال فأرسلوا إليه . فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي : [ ص: 359 ] يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " .

قال أحمد : وحدثنا ابن نضير ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش قال : قال علي : والله إنه لمما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لا يبغضني إلا منافق ولا يحبني إلا مؤمن .

انفرد مسلم بإخراج هذا الحديث واتفقا على الحديثين قبله .

اعلم أن عليا رضي الله عنه لا يزاحم في قرب نسبه وقد أقر الكل بعلمه وفضله .

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين فتبعه ، ولم يزل معه يكشف الكروب عن وجهه . وصعد على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى صنما .

أخبرنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا الحسن بن علي ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا أسباط ، حدثنا نعيم بن حكيم ، عن أبي مريم ، عن علي بن أبي طالب ، قال : انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة فقال لي : اجلس . وصعد على منكبي فذهبت لأنهض فلم أقدر ، فرأى مني ضعفا فنزل وجلس إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال : اصعد على منكبي . فصعدت على منكبه . قال : فنهض بي قال : فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس ، فجعلت أزاوله عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه ، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقذف به . فقذفت به فكسر كما تنكسر القوارير ثم نزلت ، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس .

وكان الخلق يحتاجون إلى علم علي حتى قال عمر رضي الله عنه آه من معضلة ليس لها أبو حسن .

فلما ولي لم يتغير عن الزهد في الدنيا وكان أحمد بن حنبل يقول : إن عليا ما زانته الخلافة ولكن هو زانها .


ما زانه الملك إذ حواه بل كل شيء به يزان [ ص: 360 ]     جرى ففات الملوك سبقا
فليس قدامه عنان     نالت يداه ذرى معال
يعجز عن مثلها العيان



أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أخبرنا جعفر بن أحمد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا وهيب بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن قيس ، عن علي بن ربيعة ، عن علي بن أبي طالب أنه جاءه ابن النباح فقال : يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء . قال : الله أكبر . قال : فقام متوكئا على ابن النباح حتى قام على بيت المال فقال :


هذا جناي وخياره فيه     وكل جان يده إلى فيه



فأعطى جميع ما في بيت المال المسلمين وهو يقول : يا صفراء يا بيضاء غري غيري . حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي ، أنبأنا الجوهري ، أنبأنا ابن حيوة ، حدثنا أحمد بن معروف ، حدثنا الحسين بن الفهم ، حدثنا محمد بن سعد ، أنبأنا الفضل بن دكين ، حدثنا الحر بن جرموز ، عن أبيه ، قال : رأيت عليا وعليه قطريتان إزار إلى نصف الساق ورداء مشمر ، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق يأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول : أوفوا الكيل والميزان .

أخبرنا أبو بكر بن حبيب الصوفي ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي صادق الحبيري ، حدثنا أبو عبد الله بن باكوية الشيرازي ، حدثنا عبد الله بن فهد بن إبراهيم الساجي ، حدثنا محمد بن زكريا ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا عبد الواحد بن أبي عمرو الأسيدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن حمزة : صف لي عليا فقال : أو تعفيني . قال : بل تصفه . فقال : أو تعفيني . قال : لا أعفيك . فقال : أما أن لا بد فإنه كان بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة ، يقلب كفه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له ولا نبتديه تعظمة ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين [ ص: 361 ] وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا يا دنيا تعرضت أم بي تشوفت ؟ هيهات غري غيري ، قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق .

قال : فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، ثم قال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية