صفحة جزء
الكلام على البسملة


سهم المنايا أبدا صائب يدعو إليه الناس مستعرضا     بينا الفتى في عيشه ناعم
تغره الأيام حتى قضى     وكل يوم مر من عمره
يحدوه للترحال مستنهضا     والنفس دين الموت عند الورى
ودينه لا بد أن يقتضى     يا عجبا من عالم آمن
من غدره أو سيفه المنتضى     أين الذين استبقوا للنهى
واغتبقوا بالمشرب المرتضى     طوتهم الأجداث في ضيقها
وعاد من يهواهم معرضا

أين الحبيب والخليل ؟ ودعا ، أين الرفيق ؟ رحل عنكم ودعا ، أأبقى الموت لكم في الحياة مطمعا ؟ أخذ الصغير والكبير معا ، صاح بالوالد والولد فأسرعا ، جز على القبور ترى القوم خشعا ، أين الفهم والتدبر ، أين أهل الجمل والتكبر ، أين من فسح لنفسه في الزلل ، أين من خانها بقبيح العمل ، بينا هو يعمر في رباعها ، وقد اشتراها وما باعها ، يحفر فيها الأنهار ، ويغرس فيها الأشجار ، والمماليك تدور حول الدار والسراري بحسنها تسر ، ونحورها قد زانها الدر ، والتخوت تملأ الصناديق ، وركن العز في الدنيا وثيق ، والمال يجمع فوق المال ، والخيل تردي في الجلال ، والمراكب من الحلي تصاغ ، وقد منحت الصحة إلى الفراغ ، ثم ساعد ساعد الشباب كف الهوى على الاستلاب ، والعود قد رث ثم عاد ، والبطش في الملك بطش عاد ، وقد أسكرت من قبل شرب الخمر لذة النهي [ ص: 456 ] والأمر ، صاحت بين البين أغربة البين ، فمزقت العين وأسخنت العين ، تالله لقد استلب صاحب القصر بكف القسر ، فصار بالقهر أحدوثة الدهر ، وقد كان على غاية المنى في أول الشهر ، فوا عجبا لجنة صارت كالصريم بعد الزهر .


نودي بصوت أيما صوت     ما أقرب الحي من الموت
كأن أهل الغي في غيهم     قد أخذوا أمنا من الفوت
كم مصبح يعمر بيتا له     لم يمس إلا خرب البيت
هذا وكم حي بكى ميتا     فأصبح الحي مع الميت

يا مشغولا بما لديه عما بين يديه ، يا غافلا عن الموت وقد دنا إليه ، يا ساعيا إلى ما يضره بقدميه ، يا مختار المؤذي له من حالتيه ، يأمن الدهر وقد رأى صرفيه ، كم عاين ميتا لو اعتبر بعينيه ، إنما أغار على شبابه هاجم على فوديه ، أينفعه يوم الرحيل دمع يملأ خديه ؟ يا من يصير عن قليل إلى حفرة ، تنبه لنفسك من هذه السكرة ، لو أنك تذكرت لحدك كيف تبيت وحدك ، ويباشر التراب خدك وتتقسم الديدان جلدك ، ويضحك المحب بعدك ناسيا عنه بعدك ، والأهل قد وجدوا المال وما وجدوا فقدك ، إلى متى وحتى متى تترك رشدك ، أما تحسن أن تحسن قصدك ، الأمر مجد جدا فالزم جدك .


ذهب الأحبة بعد طول تودد     ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
خذلوك أفقر ما تكون لغربة     لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة     عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا

إخواني : إنكم تغدون وتروحون في آجال قد غيبت عنكم ، لا تدرون متى تهجم عليكم ، فالوحا الوحا فالطالب حثيث .


يجد بنا صرف الزمان ونهزل     ونوقظ بالأحداث فيه ونغفل
وما الناس إلا ظاعن أو مودع     ومستلب مستعجل أو مؤجل
وما هذه الأيام إلا منازل     إذا ما قطعنا منزلا بان منزل
فناء ملح ما يغب جميعنا     إذا عاش منا آخر مات أول
وكم صاحب لي كنت أكره فقده     تسلمه مني الفناء المعجل

اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون . قال يحيى بن معاذ : لو سمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء [ ص: 457 ] لتساقطت القلوب منهم حزنا ، ولو رأت العقول بعين الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا ، ولو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لتخلعت مفاصلها ولها ، فسبحان من أغفل الخليقة عن كنه عين هذه الأشياء ، وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء :


من نال من جوهر الأشياء بغيته     يأسى ويحقر قوما حظهم عرض
إني لأعجب من قوم يشفهم     حب الزخارف لا يدرون ما الغرض
ألا عقول ألا أحلام تزجرهم     بلى عقول وأحلام بها مرض

إخواني : من آثر قناع القناعة حاطه من رداء الردى ، ومتى ساعد الفقر ساعد الصبر قلع قلعة الحرص فاستنارت طريق الهدى بمصباح اليقظة ، ومتى تأججت نيران الخوف أحرقت مواطن الهوى وطردت عنه الدنيا :


تزود من الدنيا فإنك هالك     وتترك للأعداء ما أنت مالك
ووسع طريقا أنت سالكه غدا     فلا بد من يوم تضيق المسالك

التالي السابق


الخدمات العلمية