صفحة جزء
[ ص: 473 ] المجلس السابع

لانتصاف شهر رمضان

الحمد لله الأحدي الذات ، العلي الصفات الجلي الآيات الوفي العدات ، رافع السماوات وسامع الأصوات ، عالم الخفيات ومحيي الأموات ، تنزه عن الآلات وتقدس عن الكيفيات ، وتعظم عن مشابهة المخلوقات ، جل عن الآباء والأمهات والبنات ، ثبت الأرض بالأطواد الراسيات ، وأحياها بعد موتها بالسحب الماطرات ، فإذا أرخت عزاليها ضحك باخضراره النبات ، وقالت المبتدعات بألسن الإشارات : اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات .

إذا بسط بساط العدل تزلزلت أقدام أهل الثبات ، وإذا نشر رداء الفضل غمر الذنوب الموبقات يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

حي بحياة تنزهت عن طارق الممات ، عالم بعلم واحد جميع المعلومات ، قادر بقدرة واحدة على جميع المقدورات ، أراد فلانت لهيبته صعاب المرادات ، وسمع فلم يعزب عن سمعه خفي الأصوات ، وأبصر سواد العين في أشد الظلمات ، استوى على العرش لا كاستواء المخلوقات ، وينزل إلى سماء الدنيا مروي بنقل عن الثقات ، ويراه المؤمنون في الجنة بالعيون الناظرات ، نصفه بالنقل المباين بصحته سقيم الشبهات ، من غير تكييف في الأوصاف ولا تشبيه في الذوات ، فهل علينا ملام أم هو طريق النجاة ، أحمده على جميع الحالات حمدا يدوم بدوام الأوقات ، وأقر بوحدانيته كافرا باللات ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالأدلة الواضحات ، صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه أبي بكر الناهض يوم الردة على أقدام الثبات ، القائم بنصر الإسلام وقد قعد أهل العزمات ، القائل : أقاتلهم ولو لم أجد غير البنات ، وعلى عمر العادل في القضيات ، كان إذا مشى فرق الشيطان من تلك الخطوات ، وعلى عثمان المتهجد بالقرآن في الظلمات ، الصابر على الشهادة بأيدي العداة ، وعلى علي ذي المناقب العاليات ، المخصوص بأخوة الرسول دون ذوي القرابات ، وعلى عمه العباس الذي بالسؤال به سالت عزالي السحب الماطرات .

أيها الناس : إن شهركم هذا قد انتصف ، فهل فيكم من قهر نفسه وانتصف ، وهل [ ص: 474 ] فيكم من قام فيه بما عرف ، وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف ، أيها المحسن فيما مضى منه دم ، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولم ، إذا خسرت في هذا الشهر متى تربح ، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح . كان قتادة يقول : كان يقال من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له !

أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزار بسنده عن سلمة بن وردان قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ارتقى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : آمين ، ثم ارتقى ثانية فقال آمين ، ثم استوى عليه فقال آمين ، فقال أصحابه : علام أمنت يا رسول الله ؟ فقال : أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقلت : آمين ، ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، فقلت : آمين ، ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك شهر رمضان فلم يغفر له ، فقلت : آمين .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بسنده عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا رمضان قد جاء ، تفتح فيه أبواب الجنات وتغلق فيه أبواب النار وتغل فيه الشياطين ، بعد امرؤ أدرك رمضان لم يغفر له ، إذا لم يغفر له فمتى ؟ ! " .

وبالإسناد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له " .


إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه ففي أي حين يستنير ويخصب

أخبرنا عبد الله بن علي المقري بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أمتي لن يخزوا أبدا ما أقاموا شهر رمضان ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله وما خزيهم ؟ قال : من إضاعتهم شهر رمضان بانتهاك المحارم ، فمن عمل سوءا أو زنى أو سرق فلن يقبل منه شهر رمضان ، ولعنه الله عز وجل والملائكة إلى مثلها من الحول فإن مات قبل شهر رمضان فليستبشر بالنار ، فاتقوا شهر رمضان فإن الحسنات تضاعف فيه وكذلك السيئات " .

[ ص: 475 ] عباد الله إن شهركم هذا لا قيمة له ولا يمكن استدراك ما ضاع بالتفريط .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوما من رمضان من غير مرض ولا رخصة لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه " .

قال يحيى بن معين : أبو المطوس اسمه عبد الله بن المطوس ثقة .

وذكر أبو بكر الآجري في كتاب النصيحة أن مذهب إبراهيم النخعي أن من شرب الخمر في رمضان كان عليه صوم ثلاثة آلاف يوم .

قال : وقال سعيد بن المسيب : عليه صوم شهر متتابع ، وقال الربيع بن أبي ربيعة بن عبد الرحمن : عليه صيام اثني عشر يوما ، لأن الله أوجب صيام شهر من اثني عشر شهرا .

أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، يقول الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جنة " . أخرجاه في الصحيحين .

عباد الله : فرحة الحس عند الإفطار تناول الطعام ، وفرحة الإيمان بالتوفيق لإتمام الصيام . يا هذا قدم دستور الحساب قبل الغروب فإن وجدت خللا فارقعه برقعة استغفار ، فإذا جاء السحر فاعقد عقد الزهد في الدنيا عند نية الصوم ، وتجرع جرعة دمعة في إناء ركعة لعلك تطلع على خبايا خفايا ما أعد للصائمين من مستور فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .

الكلام على البسملة


قل للمؤمل إن الموت في أثرك     وليس يخفى عليك الأمر من نظرك
فيمن مضى لك إن فكرت معتبر     ومن يمت كل يوم فهو من نذرك
دار تسافر عنها من غد سفرا     فلا تؤوب إذا سافرت من سفرك
تضحي غدا سمرا للذاكرين كما     كان الذين مضوا بالأمس من سمرك

[ ص: 476 ] يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان ، ما أراك في رمضان إلا كجمادى وشعبان ، أما يشوقك إلى الخير ما يشوق ، أما يعوقك عن الضير ما يعوق ، متى تصير سابقا يا مسبوق ، إلى متى سوق الشوق إلى سوق الفسوق ، أول الهوى سهل ثم تتخرق الخروق ، كلما حصد نباته بمنجل الصبر أخرجت العروق ، وإن لذيذ شربه فشربه شجى في الحلوق ، وإنما لذات الدنيا كخطف البروق ، ميز بين ما يفنى وما بقى تر الفروق ، خل التواني إن شئت أن تفوق ، عليك حافظ وضابط ، ليس بناس ولا غالط ، يكتب الكلمات السواقط ، وأنت في ليل الحدث خابط ، تتعرض في الصباح والمساء للمساخط ، يا من قد شاب إلى كم تغالط ، لا بد لليل من فجر منير كاشط كيف ينهض للعب واللهو الأشامط ، ماذا بقي وهذا الشيب واخط ، أما تستحي وأنت في الإثم وارط ، يا قاعدا عند التقى وهو في الهوى ناشط ، كلما رفعت لم ترد إلا المهابط ، تيقظ لنفسك فقد مضى الفارط ، وابك على ذنبك ويكفي الفارط ، أصلح ما بقي واقبل من الوسائط ، جاهد هواك في الدنيا فالفخر للمرابط ، انظر لمن تعاشر واعرف لمن تخالط ، احذر جزاء القسط عليك يا قاسط ، لا تغترر بالسلامة فربما قبض الباسط ، في لنا بالشروط ونحن نفي بالشرائط ذكر نفسك بالموت ذاك الشديد الضاغط ، إذا تحيرت في الأمور وزال الجأش الرابط ، لا تنفع الأقارب ولا تدفع الأراهط ، ونفس النفس يخرج من سم إبرة خائط .

باع قوم جارية قبيل رمضان ، فلما حصلت عند المشتري قال لها هيئي لنا ما يصلح للصوم ، فقالت لقد كنت قبلكم لقوم كل زمانهم رمضان ! .

لله در أقوام تفكروا فأبصروا ، ولاحت لهم الغاية فما قصروا ، وجعلوا الليل روح قلوبهم والصيام غذاء أبدانهم ، والصدق عادة ألسنتهم والموت نصب أعينهم .

كتب رجل إلى داود الطائي : عظني ، فكتب إليه ، أما بعد فاجعل الدنيا كيوم صمته عن شهوتك واجعل فطرك الموت فكأن قد صرت إليه ، فكتب إليه : زدني ، فكتب إليه : أما بعد فارض من الدنيا باليسير مع سلامة دينك كما رضي أقوام بالكثير مع ذهاب دينهم ، والسلام .

كان داود الطائي قد ورث من أبيه عشرين دينارا فأنفقها في عشرين سنة ، وكان جالسا في داره فإذا وقع سقف تقدم إلى موضع آخر إلى أن بقي دهليز الدار فمات فيه ، وتحت رأسه لبنة فدخل عليه ابن السماك فقال : اليوم ترى ثواب ما كنت تعمل ! .

ورآه بعض أصحابه في المنام فقال له : أوصني ، فقال : داو قروح باطنك بالجوع واقطع مفاوز الدنيا بالأحزان ، وآثر حب الله على هواك لا تبال متى تلقاه .

[ ص: 477 ] طوبى لعبد بالغ في حذاره ، واحتفر بكف فكره قبره قبل احتفاره ، وانتهب زمانه بأيدي بداره ، وأعذر في الأمر قبل شيب عذاره ، ولم يرض في زاده بتقليله واختصاره ، ورأى عيب الهوى فلم يصطل بناره ، ودافع الشهوات وصابر المكاره ، إن بحثت عنه رأيته صائم نهاره ، وإن سألت عن ليله فقائم أسحاره ، وإن تلمحته فالزفير في إصعاده والدمع في انحداره ، ولا يتناول من الدنيا إلا قدر اضطراره ، باعها فاشترى بها ما يبقى باختياره ، هل فيكم متشبه بهذا أو على نجاره ؟ .

يا حسنه ومصابيح النجوم تزهر والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر ، غسل وجهه من ماء عينه وعين العين أطهر ، فلما قضى ورد الدجى جلس يتفكر ، فخطر على قلبه كيف يموت وكيف يقبر ، وتصور صحائفه كيف تطوى وكيف تنشر ، فهام قلبه في بوادي القلق وتحير ، فطلق الدنيا ثلاثا وهل يستوطن معبر .


طوى مدة من دهره دار زخرف     إلى أبد ذي سندس وحرير
ألا تلكم الدار التي يحل أهلها     بناء عن الخطب المخوف شطير
لهم ما اشتهوا فيها مسوقا إليهم     مقودا إذا شاؤوا بغير جرير

التالي السابق


الخدمات العلمية