صفحة جزء
الكلام على قوله تعالى :

ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

أخبرنا عبد الأول بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته " .

وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل قال : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي وإني لأغضب لهم أشد من غضب الليث الحرب " .

أخبرنا محمد بن أبي طاهر عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .

أخبرنا محمد بن ناصر بسنده عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال قال موسى عليه السلام : يا رب من أهلك الذين هم أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك ؟ قال : هم [ ص: 500 ] البريئة أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون بجلالي ، الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم ، الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وكورها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب .

أخبرنا ابن ناصر بسنده عن وهب بن منبه قال قال الحواريون : يا عيسى من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ فقال عيسى عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم ، فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا ، وفرحهم بما أصابوه منها حزنا ، فما عارضهم من نائلها رفضوه أو من رفعتها بغير الحق وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها ، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها ، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، رفضوها فكانوا برفضها فرحين ، وباعوها فكانوا ببيعها رابحين ، نظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات ، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة ، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ، لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب ، بهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليسوا يرون نائلا ولا أمانا دون ما يرجون ولا خوفا دون ما يحذرون .

وقد روي ذكر عدد الأولياء في أحاديث لا تصح .

أخبرنا أبو الحسن الأنصاري بسنده عن عطاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا ، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة " .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بسنده عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كعب رضي الله عنه قال : " لم يزل في الأرض بعد نوح عليه السلام أربعة عشر يدفع بهم العذاب " .

أخبرنا ابن ناصر بسنده عن سفيان بن عيينة قال : قال أبو الزناد : لما ذهبت النبوة وكانوا أوتاد الأرض أخلف الله مكانهم أربعين رجلا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال ، لا يموت الرجل منهم حتى ينشئ الله مكانه آخر يخلفه وهم أوتاد الأرض ، لم يفضلوا الناس بكثرة الصيام ولا بكثرة القيام ولا بحسن التخشع ولا بحسن الحلية بل بصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب والنصيحة لجميع المسلمين ، وعلامة ذلك أنهم [ ص: 501 ] لا يعلنون شيئا ولا يؤذنون أحدا ، ولا يتطاولون على أحد تحتهم ولا يحقرونه ، ولا يحسدون أحدا فوقهم ، ليسوا بمتخشعين ولا متماوتين ولا بمعجبين ولا يحبون الدنيا ، ليسوا اليوم في خشية وغدا في غفلة .

رمضان القوم دائم وشوالهم كذلك صائم ، وأعيادهم سرور القوم بالمحبوب ، وأفراحهم بكمال التقى وترك الذنوب ، إذا جن عليهم الليل عادت القلوب بالمناجاة جددا ، وإذا جاء النهار سلكوا من الجد جددا ، يجمعون هممهم فيما أهمهم إذا بات هم الغافل بددا ، جزموا على ما عزموا وما انهزموا ، أبدا أعيادهم بقرب القلوب إلى المحبوب دائمة ، وأقدامهم في الدجى على باب اللجإ قائمة ، وأرواحهم بالاشتياق إلى الملك الخلاق هائمة ، قربهم مولاهم وأدنى، فالنفوس عن الفاني الأدنى صائمة ، تزينت لهم لذات الدنيا معا فما وجدت في قلوبهم لها موضعا ، لما وجدوا كسرة وخلقا أقنعا .


قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه فقلت خلقة ساق حبه جرعا     فقر وصبر هما ثوبان تحتهما
قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا     أحرى الملابس أن يلقى الحبيب بها
يوم التزاور في الثوب الذي خلعا     الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي
والعيد ما كنت لي مدا ومستمعا

إخواني : ليس العيد ثوبا يجر الخيلاء جره ، ولا تناول مطعم بكف شره لا يؤمن شره ، إنما العيد لبس توبة عاص تائب يسر بقدوم قلب غائب .

أخبرنا أبو بكر الصوفي بسنده عن الحيري ، عن ابن باكوية الشيرازي قال : أنشدني أبو الحسن الحنظلي قال سمعت الشبلي ينشد يوم العيد :


ليس عيد المحب قصد المصلى     وانتظار الخطيب والسلطان
إنما العيد أن تكون لدى الـ     ـحب كريما مقربا في أمان

يا من وفى رمضان على أحسن حال ، لا تتغير بعده في شوال ، يا من رأى العيد ووصل إليه ، متى تشكر المنعم وتثني عليه ، كم من صحيح هيأ طيب عيده ، صار ذاك الطيب في تلحيده ، سلبتهم والله أيدي المنون ، فأنزلتهم قفرا ليس بمسكون ، فهم في القبور بعد البيان خرسون ومن نيل آمالهم أو بعضها آيسون ، وهكذا أنتم عن قريب تكونون ، وقد دلهم على صدق قولي ما تعملون ، أما ترون الأتراب كيف يتقلبون ، أترى ضلت الأفهام أم عميت العيون ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون .

إلى متى ترضون من العمل بالفاسد ومن السلع بالكاسد ، وتنسون الحتف الرابض المستأسد ، لقد أشمتم بكم كل حاسد ، يا مظهرون ضد ما به الكتاب وارد ، إلى متى تبهرجون والبصير ناقد ، كيف يكون حالكم وهو عليكم شاهد :

[ ص: 502 ]

عجبت من مستيقظ     والقلب منه راقد
مضيع لدينه     وللذنوب زائد
كأنه على مدا     ه مهمل وخالد
فأحسنوا أعمالكم     فهي لكم قلائد
ولا تضيعوا واجبا     واجتهدوا وجاهدوا

لله در أقوام تلمحوا العواقب فعملوا عمل مراقب ، وجاوزوا الفرائض إلى طلب المناقب ، علت هممهم عن الدنايا وارتفعت ، وكفت الأكف عن الأذايا وامتنعت ، ووسعت خطاها إلى الفضائل وسعت ، من يحب العز يدأب إليه ، وكذا من طلب الدر غاص عليه ، كانوا إذا ابتلاهم مولاهم يصبرون ، وإذا أعطاهم مناهم يشكرون ، وإذا استراح البطالون يدأبون ، فلو رأيتهم يوم يقول هذا يومكم الذي كنتم توعدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

زال الخوف عنهم واندفع ، فأفادهم حزنهم في الدنيا ونفع ، وتم السرور لهم واجتمع ، وزال الحجاب بينهم وبينه وارتفع ، فهم إلى وجه الكريم ينظرون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

قوله تعالى :

الذين آمنوا وكانوا يتقون

قطعوا بوحدانيته واجتمعوا على طاعته ، وامتنعوا من مخالفته وارتبضوا في رياض معرفته ، واضطبعوا بأردية خدمته ، واطلعوا بالعلوم على هيبته ، فيا بشراهم يوم يحضرون الذين آمنوا وكانوا يتقون .

امتثلوا ما أمرهم به مولاهم ، واجتنبوا ما عنه نهاهم ، فإذا أخرجهم من الدنيا وتوفاهم استقبلوا الروح والريحان وتلقاهم ، فإذا حضروا لديه أكرم مثواهم ، وكشف الحجاب فأشهدهم وأراهم ، وهذا غاية ما كانوا يأملون الذين آمنوا وكانوا يتقون .

كانوا يتقون الشرك والمعاصي ، ويجتمعون على الأمر بالخير والتواصي ، ويحذرون يوم الأخذ بالأقدام والنواصي ، فاجتهد في لحاقهم أيها العاصي ، قبل أن تبغتك المنون الذين آمنوا وكانوا يتقون . [ ص: 503 ] قوله تعالى :

لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له " .

كانت قلوبهم في خدمته حاضرة ، ونفوسهم على طاعته مثابرة ، وألسنتهم على الدوام ذاكرة ، وهممهم إلى ما يرضيه مبادرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

منازلهم عنده عظيمة ، وأنفسهم عليه كريمة ، كانت قلوبهم من الشك سليمة ، ساروا إلى الجهاد على خيل العزيمة ، فإذا وقعاتهم للعدو كاسرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

زموا مطايا الصدق وساروا ، وجالوا حول دار الكريم وداروا ، ونهضوا إلى مراضيه وثاروا ، وطلبوا عدوهم فأوقعوا به وأغاروا ، فيا حسنهم إذا توجهوا إلى الصلاة واستداروا ، والدموع في محاربهم ماطرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

أقبل القوم فقبلوا ، وعرفوا لماذا خلقوا فعملوا ، إذا رجع الناس إلى لذاتهم عادوا إلى عباداتهم ، وإذا سكن الخلق إلى أوطانهم سكنوا إلى حرقات أشجانهم ، وإذا أقبل التجار على أموالهم أقبلوا على تفقد أحوالهم ، وإذا التذ الغافلون بالمنام على جنوبهم تلذذوا في القيام بكلام محبوبهم ، فلو ذقت من كؤوس المناجاة الدائرة في خيمة الدجى الدائرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

نصبوا الآخرة بين أيديهم وجدوا ومثلوا، المنادي يناديهم فاستعدوا ، وتضرعوا في طلب الإعانة فأمدوا ، وأقبلوا إلى الباب صادقين فما ردوا ، ففازوا بالأرباح الجمة الوافرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

أقلقهم ذكر الذنوب فما ناموا ، وشوقهم رجاء المطلوب فقاموا ، وذكروا العرض يوم تبديل الأرض فاستقاموا ، وتفكروا في تصرم العمر فاجتهدوا وداموا ، وتذكروا سالف الذنب فوبخوا النفوس ولاموا ، وباتت أعينهم ساهرة لذكر أرض الساهرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

[ ص: 504 ] أذبلوا الشفاه يطلبون الشفاء بالصيام ، وأنصبوا لما انتصبوا الأجساد يخافون المعاد بالقيام ، وحفظوا الألسنة عما لا يعني عن فضول الكلام ، وأناخوا على باب الرجاء في الدجى إذا سجى الظلام ، فأنشبوا مخاليب طمعهم في العفو فإذا الأظافير ظافرة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

يا هذا سبقك القوم وتخلفت ، ومضى أكثر العمر وتسوفت ، ثم تعصي المنعم بالنعم فما أنصفت ، وتؤثر الضلال على الهدى وقد عرفت ، أما تخاف أن تقول إذا حضرت ووقفت تلك إذا كرة خاسرة .

يا من بين يديه الحساب والصراط ، وهو عظيم الجرأة كثير الانبساط ، متكاسل في الطاعات وفي المعاصي ذو نشاط ، يدعى إلى العلو ويأبى إلا الانهباط ، أمؤمنة هذه النفس بالوعيد أم كافرة .

يا مبارزا مولاه لم يخف من بطشه ، يا مقبلا على الهوى بنفسه ، تفكر في من سكن الثرى بعد لين فرشه ، وانتبه بالتعريض قبل ظهور التصريح بفحشه ، أما أبقاك وأراك سواك محمولا على نعشه إلى أن ألقي في الحافرة .

يا خاسرا فاته جزيل الأرباح ، يا من أبعدته عنا خطاياه القباح ، يا من لو انتبه لنفسه لبكى عليها وناح ، أتأمن عليها أن تؤخذ على بعض الاجتراح ، فيفعل بها فاقرة .

أيقظنا الله وإياكم من هذه الرقدة وحفظ إيماننا ولا أذاقنا فقده .

التالي السابق


الخدمات العلمية