صفحة جزء
الكلام على قوله تعالى :

ألم تر كيف فعل ربك بعاد

خوف المخالفين ما فعل بنظرائهم ، وفي إرم أربعة أقوال : أحدها : أنه اسم أمة من الأمم ، ومعناه : القديمة ، قاله مجاهد . والثاني : أنه اسم قبيلة من قوم عاد ، قاله قتادة ، والثالث : أنه اسم لجد عاد لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، قاله إسحاق ، وقد قرأ ابن مسعود وابن عمر : " بعاد إرم " على الإضافة .

[ ص: 512 ] والرابع : أنه اسم بلدة .

ثم فيها ثلاثة أقوال : أحدها أنها دمشق ، قاله سعيد بن المسيب وعكرمة والثاني : الإسكندرية ، قاله محمد بن كعب ، والثالث : أنها مدينة صنعها شداد بن عاد ، قاله كعب .

فيخرج على قوله تعالى ذات العماد أربعة أقوال : أحدها : أنهم كانوا أهل عمد وخيام ، والثاني : أن المراد بالعماد : الطول ، قاله الزجاج ، يقال : عمد إذا كان طويلا ، والثالث : ذات الشدة ، والرابع : ذات البناء المحكم .

قوله تعالى : التي لم يخلق مثلها في البلاد فيه قولان : أحدهما : القبيلة في طولها وقوتها ، والثاني : المدينة .

أخبرنا عبد الخالق بن أحمد بن يوسف بسنده عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت ، فبينا هو في صحارى عدن أبين في تلك الفلوات إذ هو قد وقع على حصن ، حول ذلك الحصن قصور كثيرة ، فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فإذا لا خارج ولا داخل ، فنزل عن ناقته فعقلها ثم استل سيفه ودخل من باب الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا شيئا أعظم منهما ولا أطول ، وفي البابين نجوم من ياقوت أبيض وياقوت أحمر تضيء البابين ما بين الحصن والمدينة ، فلما رأى الرجل أعجبه وتعاظمه الأمر فدخل فإذا هو بمدينة لم ير الراؤون مثلها قط ، فإذا هو في قصور كل قصر معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت ، ومن فوق كل قصر منها غرف ، ومن فوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد ، وكل مصاريع تلك القصور وتلك الغرف مثل مصارع باب المدينة بالياقوت الأبيض والأحمر ، مفروشة تلك القصور وتلك الغرف باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ، فلما عاين الرجل ذلك ولم ير أحدا هاله ذلك وأفزعه ثم نظر في الأزقة فإذا هو بشجر في كل زقاق منها قد أثمر ، وتحت الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة ، فقال الرجل إن هذه للجنة التي وصف الله عز وجل ، ثم حمل معه من لؤلئها وزبرجدها ثم عاد إلى بلده فأظهر كان معه وأعلم الناس أمره ، فبلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان فكتب إلى صنعاء فجيء به فسأله عما رأى فأخبره فأنكر ذلك ، فأراه ما قد أخذ منها لؤلؤا قد اصفر وبنادق مسك لم يجد لها ريحا ففتها فإذا ريح المسك ، فبعث إلى كعب وقال : إني دعوتك إلى شيء رجوت أن يكون علمه عندك هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة عمدها زبرجد وياقوت وحصباؤها لؤلؤ ؟ قال : نعم هي إرم ذات العماد التي بناها شداد بن عاد ، قال [ ص: 513 ] حدثنا حديثها ، فقال : إن عادا الأول كان له ابنان شديد وشداد فهلك عاد وملك ابناه البلاد ولم يبق أحد إلا في طاعتهما ثم مات شديد فملك شداد وحده فكانت له الدنيا جميعا ، وكان مولعا بقراءة الكتب وكلما مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى أن يبني مثلها عتوا على الله عز وجل ، فأمر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان ثم قال : انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فاعملوا لي مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وفوق القصور غرف من فوق الغرف غرف واغرسوا تحت تلك القصور في أزقتها أصناف الثمار وأجروا تحتها الأنهار فإني أسمع في الكتب صفة الجنة وأنا أحب أن أجعل مثلها في الدنيا ، فقالوا : كيف نقدر على ما وصفت لنا من الزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال : ألستم تعلمون أن ملك الدنيا كلها بيدي ؟ قالوا : بلى ، قال فانطلقوا إلى معادن الزبرجد والياقوت والذهب والفضة وخذوا ما في أيدي الناس من ذلك ، وكتب إلى كل ملك في الدنيا يأمره أن يجمع ما في بلاده من جوهرها ويحفر معادنها ، فجمعوا ذلك في عشر سنين ، وكان عدد الملوك مائتين وستين ملكا وخرج الفعلة فتبددوا في الصحارى فوقعوا على صحراء عظيمة نقية من الجبال والتلال فإذا هم بعيون مطردة فقالوا : صفة التي أمرنا بها فأخذوا بقدر الذي أمرهم من الطول والعرض وأجروا قنوات الأنهار ووضعوا الأساس وأرسلت إليهم الملوك بالزبرجد والياقوت والذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر وأقاموا في ذلك ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه فأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا واجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر وزير من وزرائي ، ففعلوا ثم أخبروه فأمر ألف وزير من خاصته ومن يثق به أن يتهيأوا للنقلة إلى إرم ذات العماد وأمر من أراد من نسائه وخدمه بالجهاز فأقاموا في جهازهم عشر سنين ثم سار بمن أراد فلما بلغ إلى مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى أصحابه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ولم يدخل إرم ولا أحد ممن كان معه ولم يقدر على أحد منهم حتى الساعة .

وروى الشعبي عن دغفل الشيباني عن علماء حمير قالوا : لما هلك شداد بن عاد ومن معه من الصيحة ملك بعده ابنه ابن شداد وقد كان أبوه خلفه بحضرموت على ملكه وسلطانه فأمر بحمل أبيه من تلك المغارة إلى حضرموت وأمر فحفرت له حفيرة في مغارة فاستودعه فيها على سرير من ذهب وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب وكتب عليه :

[ ص: 514 ]

اعتبر بي أيها المغـ ـرور بالعمر المديد     أنا شداد عاد
صاحب الحصن العميد     وأخو القوة والبأ
ساء والملك المشيد     دان أهل الأرض لي
من خوف وعيدي     وملكت الشرق والغر
ب بسلطان شديد     وبفضل الملك والعد
ة فيه والعديد     فأتى هود وكنا
في ضلال قبل هود     فدعانا لو قبلنا
ه في الأمر الشديد     فعصيناه وناديـ
ـت ألا هل من مجيد     فأتتنا صيحة تهـ
ـوي من الأفق البعيد     فتوافينا كزرع
وسفا بيدا حصيد

قوله تعالى :

وثمود الذين جابوا الصخر بالواد

قطعوه ونقبوه وفرعون ذي الأوتاد فيه ستة أقوال : أحدها : أنه كان يعذب الناس بأربعة أوتاد يشدهم فيها ثم يرفع صخرة فتلقى على الإنسان فتشدخه ، قاله ابن عباس ، والثاني : أن المعنى : ذو البناء المحكم ، قاله الضحاك ، والثالث : أن المراد بالأوتاد الجنود ، كانوا يشدون ملكه ، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس ، والرابع : أنه كان يبني منارا يذبح عليها الناس ، والخامس : أنه كان له أربع أسطوانات يأخذ الرجل فيمد كل قائمة منه إلى أسطوانة فيعذبه ، روي القولان عن سعيد بن جبير ، والسادس : أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب به عليها ، قاله عطاء وقتادة .

قوله تعالى : الذين طغوا في البلاد يعني عادا وثمودا وفرعون عملوا بالمعاصي وتجبروا على أنبياء الله تعالى فأكثروا فيها الفساد بالقتل والمعاصي .

فصب عليهم ربك سوط عذاب قال ابن قتيبة : إنما قال : سوط عذاب لأن التعذيب قد يكون بالسوط ، وقال الزجاج جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب .

إن ربك لبالمرصاد أي يرصد من كفر به بالعذاب ، قال الأزهري : المرصاد المكان الذي يجد فيه الراصد العدو .

[ ص: 515 ] سجع على قوله تعالى :

إن ربك لبالمرصاد

أين من أصبح بلذاته مغتبطا ، أمسى في صماته معتبطا ، أين من كان أمره فرطا ، ندم إذا ارتكب غلطا ، أين من سلك سبيلا شططا ، نزل لحدا ما فيه وطا ، وجأه الملكان فأفزعا وأفرطا ، وافتضح بقبيحه وانكشف الغطا .


ما بين يوم المهينات     وبين يوم المغريات
إذا تأملت بعيدا     إلا كما بين ها وهات

قل للمشغولين بالفساد الواقفين مع العناد : إلى متى ظلم العباد ، كم مستلب ما نال المراد إن ربك لبالمرصاد .

أما عاد العذاب على عاد ؟ أما بأمرض وما عاد ، أين من ادعى الربوبية أو كاد ؟ كاده الجبار فيمن كاد إن ربك لبالمرصاد بينا هم في ظلم المظالم سلب على أقبح فعله الظالم ، فبات يقرع سن نادم، ولكن لما عثر الجواد أخذ والله في مضيقه ، وأغصه الموت بريقه ، وبقي متحيرا في طريقه لا ماء ولا زاد ، كأنك بك قد بلغت النبوة ، وصرعت صرعة تعجزك الأوبة ، وقمت تعرض يومئذ سلع التوبة ولكن وقت الكساد ، فلا تغتر بمالك وقصرك ، ولا تعجب بنهيك وأمرك ، يا طائر الهوى ستؤخذ من وكرك وما تعجز الصياد ، إن ربك لبالمرصاد .

من لك إذا سئلت عن خلقك وجوزيت بأقبح عملك ، تالله إن تبت من ذلك فكل عشرك أعياد .

كم أرشدك إلى رشادك وأنت على فسادك ، كم أدعوك إلى إسعادك وأنت مع سعادك ، ضرب بوق رحليك وما اهتممت بزادك ، أنا في واد وأنت في واد ، لقد بالغت لك في النصائح وقمت منذرا عقبى القبائح ، والطريق واضح والعلم لائح ومن يضلل الله فما له من هاد .

والحمد لله وحده .

التالي السابق


الخدمات العلمية