صفحة جزء
الكلام على البسملة


أرى الناس سفرا في طريق المتالف فمن بالغ أخرى المدى ومشارف     وما بطن هذي الأرض إلا قرارة
وأرواحنا مثل السيول الجوارف     وما الدهر إلا جولة ثم أولة
ونحن بمرصاد الرقيب المشارف

أيها المتفكر في القبور الدوارس ، الباكي على من كان به يستأنس ، ابك مطلقا ما يرعوي بنقل أهل المحابس ، تيقظ للخلاص ، فإلى كم أنت ناعس ، وقم مبادرا للفوت ، فإلى كم أنت جالس ، ليت شعري متى تتزود ، ومتى تبيض القلب الأسود ، أين الفرار والرقيب بالمرصد ، إلى متى مع الزلل والإسراف ، إلى كم مع الخطايا والاقتراف ، أين الندم وأين الاعتراف ، لقد سمعت من الوعظ كل شاف كاف ، أنت فيما ينفعك قاعد ، وفيما يضر ناهض ، تتوب بلسانك وتضر بجناحك ، أتناقض ؟ الشر في باطنك داخل في الغوامض ، أسد الثرى في البيع والشرا ، فإذا يرى الخديعة خلا المرابض ، يا غافلا عما قد أعد له أمكر هذا أم بله ، ما عذر من تعثر في ظلمات العيب ، بعد إضاءة نور الشيب ، يا أسفى من للمحتضر ، إذا علم من قد حضر ، وقلب الطرف متحيرا ونظر ورأى [ ص: 579 ] العجائب وقلب البصر ، وندم على إغفاله زاد السفر ، وجرى دمع الأسى ثم انهمر واحتاج إلى قليل من الزاد وافتقر ، ولم ينفعه كل مستور مدخر ، وتقطع فؤاده أسفا وانفطر ، إن هذا لعبرة لمن اعتبر ، إن كان قد سبقك الغير فأنت على الأثر ، يا هذا الحساب شديد ، والطريق بعيد ، وقد خاف من لا خوف عليه ، فكيف سكن من لا أمن له !

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول : وددت أني شعرة في صدر مؤمن .

وكان عمر رضي الله عنه يقول : وددت أني أفلت كفافا لا علي ولا لي ، لو أن لي طلاع الأرض ذهبا وفضة لافتديت بها من هول المطلع ، لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر .

لما طعن عمر رضي الله عنه قال له ابن عباس رضي الله عنهما : لتهنك الجنة يا أمير المؤمنين ، قال : غر بهذا غيري يا بن عباس : قال : ولم لا أقول لك هذا ؟ فوالله إن كان إسلامك لعزا ، وإن كانت هجرتك لفتحا ، وإن كانت ولايتك لعدلا ، ولقد قتلت مظلوما . فقال : تشهد لي بذلك عند الله يوم القيامة ؟ فكأنه تلكأ ، فقال له علي بن أبي طالب من جانبه : نعم يا أمير المؤمنين نشهد لك بذلك عند الله يوم القيامة .

هذا خوف عمر رضي الله عنه ، وأين مثل عمر ! كانت الصوامت تنطق بفضله ، وهو أسير خوفه وحزنه ، ولو رأيته لقلت له :


سل عن فضائلك الزمان فتخبرا     فنظير مجدك لا أراه ولا يرى
أو لا فدعه وادعي الشرف الذي     أعيا الأنام فلست تلقى منكرا
ما احتاج يوما أن يقام بشاهد     حق أزال الشك واجتاح المرا
فلقد جمعت مناقبا ما استجمعت     مشهورة ما استعجمت فتفسرا
فضل الأنام وأنت أثبتهم قرا     في حمل نائبة وأعجلهم قرا
لو لم تملكك الأمور قيادها     صفقت قرى مما عرى ووهت عرى
فتقدم الأمراء غير منازع     فوراء زندك كل زند قد ورى
ما بين مجدك والمحاول مثله     إلا كما بين الثريا والثرى

وكان عمر رضي الله عنه يقول : لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .

وكان علي عليه السلام يقول : آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ووحشة الطريق ! واعجبا لخوفهم مع التقوى وأمنك مع المعاصي !

يا سكران الهوى متى تفيق ، رحل الأحباب وما عرفت الطريق ، واتسعت الرحاب [ ص: 580 ] وأنت في المضيق ، وقد بقي القليل وتغص بالريق ، وتعاين زفير الموت وتعالج الشهيق ، ويبطل القوي ويخرس المنطيق ، وتغمس في بحر التلف ومن للغريق ، ويخلو ببدنك الدود للتقطيع والتمزيق ، وخرب الحصن ، وحطم الغصن الورق ، وخلوت بأعمالك وتجافاك الصديق ، فإذا قمت من قبرك فما تدري في أي فريق ، يا معرضا كل الإعراض عني ، كم رسول قد أتاك مني ، ويحك عني أمنية المتمني ، أتصر على معصيتي وتقول ظني ، أتنقض عزمك معي ومع العدو تبني ، أتترك كلامي وتختار أن تغني ، يا للهوى كم صار بشركه ، كم عقل عقلا فدار في فلكه ، كم غير نورا من الهدى بحلكه ، كم بطل بطلا في حربه ومعتركه ، كم أبكى مغرورا بعد لهوه وضحكه ، كيف يفرح من الموت بين يديه ، وكيف يلهو من ماله بلاء عليه ، وكيف يغفل ورسل الموت تختلف إليه ، كيف يلتذ بوطنه من يرى اللحد بعينيه :


إني أبثك من حديثي     والحديث له شجون
غيرت موضع مرقدي     ليلا فنافرني السكون
قل لي فأول ليلة     في القبر كيف ترى تكون ؟ !



التالي السابق


الخدمات العلمية