صفحة جزء
الكلام على البسملة


لا تأسفن لأمر فات مطلبه هيهات ما فائت الدنيا بمردود     إذا اقتضت أخذت نقدا وإن سئلت
فدأبها بالأماني والمواعيد     وما السرور بها الموروث آخره
أن يتبع الحرص إلا قلب مكدود     وللتأسف يبقى كل مدخر
وللمنية يغدو كل مولود

يا مخلوقا من علق ، اكتف من الدنيا بالعلق ، واحذر في ري الهوى من شرق ، وتذكر يوم الرحيل ذاك القلق ، وتفكر في هاجم يسوي بين الملوك والسوق ، وتأهب له فربما بكر وربما طرق ، يا من شاب وما تاب ، استلب باقي الرمق ، أبعد الحلم جهل أم بعد الشيب نزق ، كان الشباب غصنا غضا فخلي عن ورق ، وأنت في الشباب كالشيب تجري على نسق ، يا غريقا في الهوى صح من قبل الغرق ، كم طالب خلاصا لما فات ما اتفق .

ليأتينك من الموت ما لا يقبل رشوة ولا مالا ، إذا حال على القوي والقويم ما لا ، يا مختار الهوى جهلا وضلالا ، لقد حملت أزرك أوزارا ثقالا ، إياك والمنى فكم وعد المنى محالا ، كم قال لطالب نعم : نعم سأعطيك نوالا وقد نوى : لا .

كم سقى الموت من الحسرات كؤوسا ، كم فرغ ربعا عامرا مأنوسا ، كم طمس بدورا وشموسا واستلب نعيما ثم أعطى بوسا ، وأذل جبابرة كانوا شوسا ، وأغمض عيونا ونكس رؤوسا وأبدل التراب عن الثياب ملبوسا .


إذا كان ما فيه الفتى عنه زائلا     فشتان فيه أدرك الحظ أو أخطا
وليس يفي يوما سرورا وغبطة     بحزن إذا المعطي استرد الذي أعطا

[ ص: 591 ] ذهب الشباب الأسود ، وانقضى العيش الأرغد ، وقال الشيب : أنا الموت وما أبعد ، هذا وقلب الغافل كالجلمد :


لا بدع إن ضحك القتير     فبكى لضحكته الكبير
عاصى العزاء عن الشباب     وطاوع الدمع الغزير
سقيا لأيام مضت     فطويلها عندي قصير
سقي الشباب وإن عفى     آثار معهده القتير
ما كان إلا الملك أودى     بل هوى وهوى السرير
هون عليك فإنها     خلع أعاركها معير
والدهر يقسم مرة     نفلا وآونة يغير

كل راحات الدنيا هموم وكروب ، أما دوام العيش بالمشيب مشوب .

نظر سليمان بن وهب وزير المهتدي يوما في المرآة فرأى شيبا كثيرا فقال : عيب لا عدمنا .

أنت كل يوم إلى القبر تتقرب ، وسترحل إلى البلى وتتغرب ، وسيأكل المحب بعدك ويشرب ، وكأنك إذا ذكرت أضرب ، فخذ العدة فخيل الشدة تسرب ، واسمع نصحي فنصحي مجرب ، يا هذا احذر الأمل ، وبادر العمل ، فكأنك بالأجل على عجل . أما الأعمار كل يوم ناقصة ، أما الفجائع واردة واقصة ، أما النكبات لأهلها معاقصة ، أما كف الموت قابضة قانصة ، فأنى لساكن الدنيا بالسلامة الخالصة ، كأنك بالموت قد ثلب وقدح ، وأورى زناد الرحيل وقدح ، وخلت كفك يا من تعب وكدح ، وتساوى لديك من ذم ومن مدح ، ما هذه العمارة لدار خراب ، كلما عمرها قوم صاح بينهم للبين غراب ، أبتني وأنت تنقض ، هذا العجاب :


رب شريف البناء عاليه     بالشيد والساج كان بانيه
كأنما الشمس في جوانبه     بالليل من حسنه تباهيه
تحار في صحنه الرياح كما     تحار ساري الظلام في التيه
كانت صحون فيح تضيق به     فالشبر في القبر صار يكفيه

الجد الجد قبل بغتات المنايا ، البدار البدار قبل حلول الرزايا ، ليحلن بكم من الموت يوم ذو ظلم ينسيكم معاشرة اللذات والنعم ، ولا يبقي في الأفواه إلا طعم الندم :


سل بالزمان خبيرا     إني به لعليم
واهي الأمانة ظاعن     بالمرء وهو مقيم
[ ص: 592 ] لا تخدعن بمنية     أم الخلود عقيم
وإذا المنية أبرقت     فرجاؤك المهزوم
عشق البقاء وإنما     طول الحياة هموم

ما هذه الخصال المذمومة ، أيؤثر الفهوم لذة مسمومة ، إن هذه لمعول مرجومة ، متى تيقظ هذه النفوس الملومة ، إنها لظالمة وكأنها مظلومة ، تعاهدوا والعهود كل يوم مهدومة ، لتتمنين أن تكون في غد معدومة ، لتعلمن أن اختياراتها كانت مشؤومة ، من لها إذا بدت لها خصال مكتومة ، كيف تصنع إذا نشرت الصحف مختومة ، ما هذا الحرص الشديد والأرزاق مقسومة ، تصبح حزينة وتمسي مهمومة ، أتقدر على رد ما يقدر والأمور مختومة ، أسفا لها الموت يطلبها وهو نؤومة ، ما حاربت جند هوى إلا وعادت مهزومة ، يا لها موعظة بين المواعظ كالأيام المعلومة ، أحسن من اللآلئ المنثورة . والعقود المنظومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية