صفحة جزء
[ ص: 102 ] المجلس الثامن

في قصة بناء الكعبة

الحمد لله الملك الجليل المنزه عن النظير والعديل المنعم بقبول القليل ، المتكرم بإعطاء الجزيل ، تقدس عما يقول أهل التعطيل ، وتعالى عما يعتقد أهل التمثيل ، نصب للعقل على وجوده أوضح دليل ، وهدى إلى وجوده أبين سبيل ، وجعل للحسن حظا إلى مثله يميل ، فأمر ببناء بيت وجل عن السكنى الجليل وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل .

ثم حماه لما قصده أصحاب الفيل ، فأرسل عيهم حجارة من سجيل .

أحمده كلما نطق بحمده وقيل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن ما عنه قيل ، وأصلي على نبيه محمد النبي النبيل ، وعلى أبي بكر الصديق الذي لا يبغضه إلا ثقيل ، وعلى عمر وفضل عمر فضل طويل ، وعلى عثمان وكم لعثمان من فعل جميل ، وعلى علي وجحد قدر علي تغفيل ، وعلى عمه العباس المستسقى بشيبته فإذا السحب تسيل .

قال الله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل .

اختلف العلماء في المبتدئ ببناء البيت على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الله تعالى وضعه لا ببناء أحد ، ثم في زمن وضعه إياه قولان : أحدهما : قبل خلق الدنيا .

قال أبو هريرة : كانت الكعبة حشفة على الماء ، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل خلق الأرض بألفي عام ، الحشفة الأكمة الحمراء .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما كان العرش على الماء قبل خلق السماوات بعث الله تعالى ريحا فصفقت الماء فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كأنها قبة ، فدحا الأرض من تحتها ، وقال مجاهد : لقد خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى .

[ ص: 103 ] وقال كعب : كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بأربعين سنة .

وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة وفيه قناديل من الجنة فلما أهبط الله تعالى آدم أنزل عليه الحجر الأسود فأخذه فضمه إليه استئناسا به ، وحج آدم فقالت له الملائكة بر حجك ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ، فقال : يا رب اجعل له عمارا من ذريتي ، فأوحى الله تعالى : إني معمره بأبناء نبي من ذريتك اسمه إبراهيم .

القول الثاني : أن الملائكة بنته ، قال أبو جعفر الباقر : لما قالت الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها غضب عليهم ، فعاذوا بالعرش يطوفون حوله يسترضون ربهم ، فرضي عنهم وقال : ابنوا في الأرض بيتا يعوذ به كل من سخطت عليه ويطوفون حوله ، كما فعلتم بعرشي ، فبنوا هذا البيت .

والثالث : أن آدم لما أهبط أوحى الله إليه : ابن لي بيتا واصنع حوله كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ، رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وروى عنه عطاء أنه بناه آدم من خمسة أجبل : لبنان وطور سيناء وطور زيتا والجودي وحراء .

وقال وهب : فلما مات آدم بناه بنوه بالطين والحجارة ، فنسفه الغرق .

قال مجاهد : وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السيول وكان يأتيها المظلوم ويدعو عندها المكروب .

قال علماء السير : لما سلم الخليل من النار خرج بمن معه من المؤمنين مهاجرا ، فتزوج سارة بحران ، وقدم مصر وبها فرعون من الفراعنة ، فوصف له حسنها فبعث فأخذها ، فلما دخلت قام إليها فقامت تصلي وتقول : اللهم إني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي الكافر ، فغط حتى ركض الأرض برجله ، فقالت : اللهم إن يمت يقال هي التي قتلته ، فأرسل ، ثم قام إليها فدعت فغط حتى ركض الأرض برجله ، ثم أرسل ، فقال : ردوها إلىإبراهيم وأعطوها هاجر .

[ ص: 104 ] فوهبتها لإبراهيم وقالت : لعله يأتيك منها ولد ، وكانت سارة قد منعت الولد ، فولدت له إسماعيل فهو بكر أبيه ، ولد له وهو ابن تسعين سنة ، فلما ولدت غارت سارة وأخرجتها ، وحلفت لتقطعن منها بضعة ، فخفضتها ثم قالت : لا تساكنني في بلدي .

فأوحى الله تعالى إليه أن يأتي مكة ، فذهب بها وبابنها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء فقال : يا جبريل أهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم ، فأنزلهما موضع الحجر وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا .

أخبرنا عبد الأول قال أنبأنا أبو الحسن الداودي قال أنبأنا ابن أعين السرخسي حدثنا أبو عبد الله الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر ، عن أيوب السختياني ، وكثير بن كثير عن المطلب بن أبي وداعة ، يزيد أحدهما على الآخر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما اتخذ النساء المنطقة من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت إذا لا يضيعنا الله ، ثم رجعت .

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ : يشكرون .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى من العطش ، أو قال : يتلبط ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : فلذلك سعى الناس بينهما ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ثم تسمعت أيضا [ ص: 105 ] فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا .

قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هذا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .

وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله . فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كدى فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا ، قال : وأم إسماعيل عند الماء قالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم .

قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل .

فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشتهم وهيأتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، وشكت إليه ، قال : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه .

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غير عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلقها وتزوج منهم أخرى .

فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، فسألها عن عيشتهم وهيأتهم فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله عز وجل ، فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم ، قال : فما شرابكم ؟ قالت الماء ، قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ [ ص: 106 ] حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه .

فلما جاء إسماعيل ، قال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ حسن الوجه وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير ، قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك .

ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يفعل الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله قد أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك ، قال : فإن الله تعالى قد أمرني أن أبني ههنا بيتا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها .

فعند ذلك رفع القواعد من البيت .

فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
انفرد بإخراجه البخاري .

قال علماء السير : لما أمر الخليل عليه السلام ببناء البيت قال : يا رب بين لي صفته فأرسل الله تعالى سحابة على قدر الكعبة ، فسارت معه حتى قدم مكة ، حتى وقفت في موضع البيت ونودي : ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص .

وكان جبريل حين الغرق قد استودع أبا قبيس الحجر الأسود ، فلما بنى إبراهيم البيت أخرجه إليه فوضعه .

أخبرنا الكروخي ، أنبأنا الغورجي ، أنبأنا الجراحي ، حدثنا المحبوبي ، حدثنا الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم .

قالوا : وولد لإسماعيل اثنا عشر ولدا واتخذه الله نبيا ، وبعثه إلى العماليق وجرهم [ ص: 107 ] وقبائل اليمن ، فنهاهم عن عبادة الأوثان ، وتوفيت هاجر وهي بنت تسعين سنة ولإسماعيل عشرون سنة ، فدفنها في الحجر وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة ، وكان قد شكا إلى ربه حر مكة ، فأوحى الله تعالى إليه أني أفتح لك بابا من الجنة في الحجر يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة ، وفي الحجر قبره .

ولما توفي دبر أهل الحرم بعده ابنه نابت ، ويقال نبت ، ثم غلبت جرهم على البيت وانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم بنته جرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية