صفحة جزء
وللعلماء في الذبيح قولان :

أحدهما : أنه إسماعيل ، قاله ابن عمر وعبد الله بن سلام والحسن البصري وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ويوسف بن مهران والقرظي ، في آخرين .

والثاني : أنه إسحاق .

أخبرنا علي بن عبيد الله ، وأحمد بن الحسين وعبد الرحمن بن محمد ، قالوا : أنبأنا عبد الصمد المأمون ، أنبأنا علي بن عمر الحربي ، حدثنا أحمد بن كعب ، حدثنا عبد الله ابن عبد المؤمن ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، [ ص: 116 ] عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الذبيح إسحاق .

وهذا قول عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبي موسى وأبي هريرة وأنس وكعب ووهب ومسروق ، في خلق كثير ، وهو الصحيح .

أخبرنا الحسين ، أنبأنا أبو طالب بن غيلان ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا الهيثم بن خلف ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي ابن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سأل داود عليه السلام ربه فقال : إلهي أسمع الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني رابعا ، فقال : لست هناك إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا إلا اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي بنفسه ، وإن يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف .

وأما سبب أمره بذبحه : فروى السدي عن أشياخه ، أن جبريل لما بشر سارة بإسحاق قالت : ما آية ذلك ؟ قال : فأخذ عودا يابسا في يده فلواه بين أصابعه فاهتز خضرا ، فقال إبراهيم : هو لله إذا ذبيح ، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم فقيل له : أوف بنذرك ، فقال لإسحاق : انطلق نقرب قربانا إلى الله ، وأخذ سكينا وحبلا ، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب بين الجبال فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فقال إسحاق : اشدد رباطي كيلا أضطرب واكفف ثيابي لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن ، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي ، وإذا أتيت سارة فاقرأ عليها السلام مني .

فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي ، وربطه وجر السكين على حلقه فلم تذبح السكين ، وقال غيره : انقلبت ، فنودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه وأكب عليه يقبله ويقول : يا بني اليوم وهبت لي ، ورجع إلى أمه فأخبرها الخبر فقالت : أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني ؟ ! .

[ ص: 117 ] قال شعيب الجبائي : لما علمت بذلك ماتت في اليوم الثالث .

وإنما قال : فانظر ماذا ترى أي ما عندك من الرأي ، ولم يقل ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه قال يا أبت افعل ما تؤمر أي ما أمرت .

فلما أسلما أي استسلما لأمر الله سبحانه ورضيا وفي جواب هذا قولان :

أحدهما : أن جوابه (ناديناه) والواو زائدة ، قاله الفراء .

والثاني : أنه محذوف تقديره : سعد وأثيب .

قوله تعالى : وتله للجبين قال ابن قتيبة : صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما وناديناه قال المفسرون : نودي من الجبل : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفيه قولان :

أحدهما : قد عملت بما أمرت به ، وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه ، فطاوعه الابن بالتمكين من الذبح ، إلا أن الله صرف ذلك كما شاء ، فصار كأنه ذبح وإن لم يقع الذبح .

والثاني : أنه رأى في المنام معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم ، فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام قيل له : قد صدقت الرؤيا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري : قد "صدقت الرؤيا" بتخفيف الدال .

إنا كذلك أي كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده ، كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفيه قولان :

أحدهما : النعمة البينة وهو العفو عن الذبح .

والثاني : الاختيار العظيم ، وهو امتحانه بالذبح وفديناه بذبح وهو بكسر الذال اسم ما ذبح وبفتحها مصدر ذبحت ، والمعنى : خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له .

وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقال في رواية سعيد بن جبير : هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه ، كان في الجنة حتى فدي به .

[ ص: 118 ] والثاني : أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين ، رواه الطفيل عن ابن عباس .

والثالث : أنه كان ذكرا من الأروى أهبط عليه من ثبير قاله الحسن .

وفي قوله عظيم قولان :

أحدهما : لأنه قد رعى في الجنة ، قاله ابن عباس ، والثاني : أنه متقبل ، قاله مجاهد ، قال وهب بن منبه : كان ذلك بإيلياء من أرض الشام .

سبحان المفاوت بين الخلق ! يقال للخليل : اذبح ولدك ، فيأخذ المدية ويضجعه للذبح ، ويقال لقوم موسى : " اذبحوا بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون ! .

ويخرج أبو بكر من جميع ماله ، ويبخل ثعلبة بالزكاة ! ويجود حاتم بقوته ، ويبخل بضوء ناره الحباحب .

وكذلك فاوت بين الفهوم ، فسحبان أنطق متكلم ، وباقل أقبح من أخرس .

وفاوت بين الأماكن فزرود تشكو العطش ، والبطائح تصيح : الغرق .

قال علماء السير : لم يمت إبراهيم حتى نبئ إسحاق وبعث إلى أرض الشام وكان إبراهيم قد زوج إسحاق أروقة بنت بتاويل ، فولدت له العيص ويعقوب ، وهو ابن ستين سنة ، فأما العيص فتزوج بنت عمه إسماعيل ، فولدت له الروم ، فكل بني الأصفر من ولده وكثر أولاده حتى غلبوا الكنعانيين بالشام وصاروا إلى البحر والسواحل وصار الملوك من ولده وهم اليونانية .

وأما يعقوب فتزوج ليا فولدت أكثر أولاده ، ثم تزوج راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، وعاش إسحاق مائة وستين سنة ، وتوفي بفلسطين ودفن عند أبيه إبراهيم .

إخواني : تأملوا عواقب الصبر ، وتخايلوا في البلاء نور الأجر ، فمن تصور زوال المحن وبقاء الثناء هان الابتلاء عليه ، ومن تفكر في زوال اللذات وبقاء العار هان تركها عنده ، وما يلاحظ العواقب إلا بصر ثاقب .

التالي السابق


الخدمات العلمية