صفحة جزء
( سجع على قوله تعالى ) :

الذين ينفقون في السراء والضراء أي في العسر واليسر

صدقوا في المحبة والولاء ، وصبروا على نزول البلاء ، وقاموا في دياجي الظلماء ، يشكرون على سوابغ النعماء ، فجرت دموع جفونهم جريان الماء ، فأربحهم في المعاملة رب السماء ، ينفقون في السراء والضراء . [ ص: 44 ]

بذلوا المال ومالوا إلى السخاء ، وطرقوا باب الفضل بأنامل الرجاء وتلمحوا وعد الصادق بجزيل العطاء ، وتأهبوا للحضور يوم اللقاء ، وقدموا الأموال ثقة بالجزاء ينفقون في السراء والضراء .

أناخوا بباب الطبيب طلبا للشفاء ، وصبروا رجاء العافية على شرب الدواء ، فإن ابتلوا صبروا ، وإن أعطوا شكروا ، فالأمر على السواء ، تالله لقد شغلهم حبه عن الآباء والأبناء ، ولقد عاملوه بإيثار المساكين والفقراء الذين ينفقون في السراء والضراء .

قوله تعالى : والكاظمين الغيظ الكظم : الإمساك على ما في النفس .

أخبرنا أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب ، حدثني أبو مرحوم ، عن ابن الحصين ، قال أنبأنا ابن المذهب ، قال ابن مالك ، حدثنا عبد الله بن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق ثم يخير أي الحور العين شاء .

قال أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى .

قوله تعالى : والعافين عن الناس

روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " .

وقال علي رضي الله عنه : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه .

وشتم رجل عمر بن ذر فقال : لا تفرطن في شتمنا ، ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا إلا أن نطيع الله فيه ، وشتم رجل الشعبي فجعل يقول : أنت كذا وأنت كذا ، فقال الشعبي : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك . [ ص: 45 ]

وأتي عمر بن عبد العزيز برجل كان قد نذر إن أمكنه الله منه ليفعلن به وليفعلن ، فقال له رجاء بن حيوة : قد فعل الله ما تحب من الظفر فافعل ما يحب من العفو .

وأغلظ رجل لعمر بن عبد العزيز ، فأطرق طويلا ثم قال : أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا .

وقال له رجل وهو على المنبر : أشهد أنك من الفاسقين ، فقال : لا أجيز شهادتك .

وقيل للفضيل بن مروان : إن فلانا يشتمك ، فقال : لأغيظن من أمره ، يغفر الله لنا وله ، قيل له : ومن أمره ؟ قال الشيطان .

قوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله .

الفاحشة : القبيحة ، وهي الكبائر ، والاستغفار يمحو أثر الذنوب .

أسفا لعبد كلما كثرت أوزاره قل استغفاره ، وكلما قرب من القبور قوي عنده الفتور .


يا مدمن الذنب أما تستحي الله في الخلوة ثانيكا     غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويكا

إخواني : إنكم مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ، ومضمنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ومبعوثون أفرادا ، فاتقوا الله تقية من شمر تجريدا وجد تشميرا ؛ ونظر في المآل وعاقبة المصير ، ومغبة المرجع ، وكفى بالجنة نوالا وبالنار نكالا .

فرحم الله عبدا اقترف فاعترف ، ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وعمر فاعتبر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، وتزود لرحيله وتأهب لسبيله .

فهل ينتظر أهل غضاضة الشباب إلا الهرم ، وأهل بضاعة الصحة إلا السقم ، وأهل طول البقاء إلا مفاجأة الفناء واقتراب الفوت ونزول الموت ، وأزف الانتقال وإشفاء الزوال ، وحفز الأنين ، وعرق الجبين ، وامتداد العرنين ، وعظم القلق وقبض الرمق .

جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه ، وأعد عدة تصلح لرمسه ، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه ، قبل ظهور العجائب ومشيب الذوائب ، وقدوم الغائب وزم الركائب ، إنه سميع الدعاء . [ ص: 46 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية