صفحة جزء
الكلام على البسملة

اسم ما أحلاه لمسمى ما أعلاه ، قرب المحب وأدناه ، وبلغ المؤمل من فضله مناه ، من لاذ بحماه حماه ، ومن استعطاه أعطاه ، أنست به قلوب العارفين ، وولهت من محبته أفئدة المشتاقين ، وخضعت لمحبته رقاب المتكبرين ، وإنما يحب كل قلب حزين .


ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره [ ص: 50 ]     وهو مولاي رضيت به
ونصيبي منه أوفره     غاب عن سمعي وعن بصري
فسويدا القلب يبصره

لله در ألسنة بذكري تجري ، ويا فخرهم وهممهم إلى بابي تسري ، ويا راحة أبدانهم تعبت بين نهيي وأمري ، طالما اطلعت عليهم وهم على باب شكري ، رفضوا شهواتهم فالنفوس في أسري ، قطعوا جواد الجد وأنت في الغفلة ما تدري .

اذكر اسم من إن أطعته أفادك وإذا أتيته شاكرا زادك ، وإذا خدمته أصلح قلبك وفؤادك .

قال الشبلي : ليس للأعمى من الجوهر إلا لمسه ، وليس للجاهل من ذكر الله عز وجل إلا النطق باللسان .


ذكرك لي مؤنس يعارضني     يعدني عنك منك بالظفر
وكيف أنساك يا مدى همي     وأنت مني بموضع النظر

يا من يرجو الثواب بغير عمل ، ويرجئ التوبة بطول الأمل ، أتقول في الدنيا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين ، لا بقليل منها تقنع ، ولا بكثير منها تشبع ، تكره الموت لأجل ذنوبك وتقيم على ما تكره الموت له ، تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن ، لا تثق من الرزق بما ضمن لك ، ولا تعمل من العمل ما فرض عليك ، تستكثر من معصية غيرك ما تحقره من نفسك .

أما تعلم أن الدنيا كالحية ، لين لمسها والسم الناقع في جوفها ، يهوي إليها الصبي الجاهل ، ويحذرها ذو اللب العاقل ، كيف تقر بالدنيا عين من عرفها ، وما أبعد أن يفطم عنها من ألفها :


حقيق بالتواضع من يموت     وحسب المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا اهتمام     وحزن لا تقوم به النعوت
فيا هذا سترحل عن قريب     إلى قوم كلامهم السكوت

أخبرنا عمر بن ظفر ، بسنده إلى محمد بن أحمد بن زياد قال : سمعت أبا بكر العطار يقول : حضرت جنيدا عند موته أنا وجماعة من أصحابنا ، وكان قاعدا يصلي ويثني رجليه إذا أراد أن يركع ويسجد ، فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجليه ، فثقل عليه تحريكهما ، وكانت رجلاه قد تورمتا ، فقال بعض أصحابه : ما هذا يا أبا القاسم ؟ قال : هذه نعم ، الله أكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد : يا أبا القاسم لو اضطجعت ؟ فقال : يا محمد هذا وقت يؤخذ منه ، الله أكبر ، فلم يزل كذلك حتى خرجت روحه . [ ص: 51 ]

طوبى لمن تنبه من رقاده ، وبكى على ماضي فساده وخرج من دائرة المعاصي إلى دائرة سداده ، عساه يمحو بصحيح اعترافه قبيح اقترافه ، قبل أن يقول فلا ينفع ، ويعتذر فلا يسمع :


قد قلت للنفس وبالغت     وزدت في العتب وأكثرت
يا نفس قد قصرت ما قد كفى     تيقظي قد قرب الوقت
جدي عسى أن تدركي ما مضى     قد سبق الناس وخلفت
أنا الذي قد قلت دهرا غدا     أتوب من ذنبي فما تبت
لو كنت ذا عقل لما حل بي     نحت على نفسي ما عشت
واحسرتي يوم حسابي إذا     وقفت للعرض وحوسبت
واخجلتي إن قيل لي قد مضى     وقتك تفريطا ووبخت
ولي كتاب ناطق بالذي     قد كنت في دنياي قدمت
تميلني الدنيا بأهوائها     لولا شقاء الحظ ما ملت
وقد تحيرت ولا عذر لي     إن قلت إني قد تحيرت

قال عيسى بن مريم عليه السلام : لا ينتظر امرؤ بتوبته غدا ، فإن بينك وبين غد يوما وليلة ، وأمر الله غاد ورائح .

بادر أيها الشاب قبل الهرم ، واغتنم أيها الشيخ الصحة قبل السقم ، قبل أن يتمكن من بدنك الألم ، ويقول لسان العتاب : ألم أقل لك ، ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " .

وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يصفر ويخضر ، وحج ثمانين حجة .

وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها ، وكان يبكي طول الليل ، فقالت له أمه : يا بني لعلك قتلت قتيلا ؟ فيقول : أنا أعلم بما صنعت نفسي :


جنحت شمس حياتي     وتدلت للغروب
وتولى ليل رأسي     وبدا فجر المشيب
رب خلصني فقد لججت     في بحر الذنوب
وأنلني العفو يا أقرب     من كل قريب

[ ص: 52 ] الكلام على قوله تعالى :

قل انظروا ماذا في السماوات والأرض سبحان من أظهر العجائب في مصنوعاته ، ودل على عظمته بمبتدعاته ، وحث على تصفح عبره وآياته ، وأظهر قدرته في البناء والنقض ، والهشيم والغض ، قل انظروا ماذا في السماوات والأرض .

سعد من تدبر ، وسلم من تفكر ، وفاز من نظر واستعبر ، ونجا من بحر الهوى من تصبر وهلك كل الهلاك وأدبر من نسي الموت مع الشعر المبيض قل انظروا ماذا في السماوات والأرض .

يا أرباب الغفلة اذكروا ، يا أهل الإعراض احضروا ، يا غافلين عن المنعم اشكروا ، يا أهل الهوى خلوا الهوى واصبروا ، فالدنيا قنطرة فجوزوا واعبروا ، وتأملوا هلال الهدى فإن غم عليكم فاقدروا ، فقد نادى منادي الصلاح حي على الفلاح ، فأسمع أهل الطول والعرض قل انظروا ماذا في السماوات والأرض .

إخواني : ليس المراد بالنظر إلى ما في السماوات والأرض ملاحظته بالبصر وإنما هو التفكر في قدرة الصانع .

أخبرنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الله بن علي الدقاق ، أنبأنا أبو الحسين ابن بشران ، أنبأنا إسماعيل الصفار ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء رضي الله عنها أنها قالت : " تفكر لحظة خير من قيام ليلة " .

وقيل لها : ما كان أفضل عمل أبي الدرداء ؟ قالت : التفكر .


وقال ابن عباس : ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة .

وقال الحسن : ما زال أهل العلم يعودون بالتفكر على التذكر ، وبالتذكر على التفكر ، ويناطقون القلوب حتى نطقت ، فإذا لها أسماع وأبصار ، فنطقت بالحكمة وضربت الأمثال ، فأورثت العلم .

وقال : الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك ، وقال : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو . [ ص: 53 ]

وجاء في تفسير قوله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون قال : أمنع قلوبهم من التفكر في أمري .

وكان لقمان يجلس وحده ويقول : طول الوحدة أفهم للتفكر ، وطول التفكر دليل على طريق الجنة .

وقال وهب بن منبه : ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم ، ولا علم إلا عمل .

وبينما أبو شريح العابد يمشي جلس فتقنع بكسائه وجعل يبكي ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي ! .

وبينا داود الطائي في سطح داره في ليلة قمراء تفكر في ملكوت السماوات والأرض فوقع إلى سطح جاره ، فلما أفاق قال : ما علمت بذلك .

واعلم أن التفكر ينقسم إلى قسمين : أحدهما يتعلق بالعبد ، والثاني بالمعبود جل جلاله .

فأما المتعلق بالعبد : فينبغي أن يتفكر : هل هو على معصية أم لا ؟ فإن رأى زلة تداركها بالتوبة والاستغفار ، ثم يتفكر في نقل الأعضاء ، من المعاصي إلى الطاعات ، فيجعل شغل العين العبرة ، وشغل اللسان الذكر ، وكذلك سائر الأعضاء .

ثم يتفكر في الطاعات ليقوم بواجبها ويجبر واهنها ، ثم يتفكر في مبادرة الأوقات بالنوافل طلبا للأرباح ، ويتفكر في قصر العمر فينتبه حذرا أن يقول غدا : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله .

ثم يتفكر في خصال باطنه فيقمع الخصال المذمومة ، كالكبر والعجب والبخل والحسد ، ويتولى الخصال المحمودة ، كالصدق والإخلاص والصبر والخوف .

وفي الجملة يتفكر في زوال الدنيا فيرفضها ، وفي بقاء الآخرة فيعمرها .

أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر المقبري ، أنبأنا عاصم بن الحسن ، أنبأنا بشران ابن صفوان ، أخبرنا أبو بكر بن عبيد ، قال : قال محمد بن الحسين ، حدثني عمار بن عثمان ، حدثني سعيد بن ثعلبة ، قال : قال النضر بن المنذر لإخوانه : زوروا الآخرة في كل يوم بقلوبكم ، وشاهدوا الموت بتوهمكم ، وتوسدوا القبور بفكركم ، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة ، فمختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر أيام حياته .

وأما المتعلق بالمعبود جل جلاله فقد منع الشرع من التفكر في ذات الله عز وجل [ ص: 54 ] وصفاته فقال عليه السلام : " تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله ، فإنكم لن تقدروا قدره " ، فلم يبق إلا النظر في الآثار التي تدل على المؤثر .

وجميع الموجودات من آثار قدرته ، وأعجب آثاره الآدمي ، فإنك إذا تفكرت في نفسك كفى ، وإذا نظرت في خلقك شفى ، أليس قد فعل في قطرة من ماء ما لو انقضت الأعمار في شرح حكمته ما وفت !

كانت النقطة مغموسة في دم الحيض ، ومقياس القدرة يشق السمع والبصر ، خلق منها ثلاثمائة وستين عظما وخمسمائة وتسعا وعشرين عضلة ، كل شيء من ذلك تحته حكمة ، فالعين سبع طبقات ، وأربعة وعشرون عضلة لتحريك حدقة العين وأجفانها ، لو نقصت منها واحدة لاختل الأمر ، وأظهر في سواد العين على صغره صورة السماء مع اتساعها ، وخالف بين أشكال الحناجر في الأصوات ، وسخر المعدة لإنضاج الغذاء ، والكبد لإحالته إلى الدم ، والطحال لجذب السوداء ، والمرارة لتناول الصفراء كلها ، والعروق كالخدم للكبد تنفذ منها الدماء إلى أطراف البدن .

فيا أيها الغافل ما عندك خبر منك ، فما تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فتنام ، وتغضب فتخاصم ، فبماذا تميزت على البهائم !

ارفع بصر فكرك إلى عجائب السماوات ، فتلمح الشمس في كل يوم في منزل ، فإذا انخفضت برد الهواء وجاء الشتاء ، وإذا ارتفعت قوي الحر ، وإذا كانت بين المنزلتين اعتدل الزمان ، والشمس مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة وأصغر الكواكب مثل الأرض ثماني مرات .

ثم اخفض بصرك إلى الأرض ترى فجاجها مذللة للتسخير ، فامشوا في مناكبها ، وتفكروا في شربها بعد جدبها بكأس القطر ، وتلمح خروج النبات يرفل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح ، وانظر كيف نزل القطر إلى عرق الشجر ، ثم عاد ينجذب إلى فروعها ، ويجري في تجاويفها بعروق لا تفتقر إلى كلفة .

فلا حظ للغافل في ذلك إلا سماع الرعد بأذنه ورؤية النبات والمطر بعينيه .

كلا ! لو فتح بصر البصيرة لقرأ على كل قطرة ورقة خطا بالقلم الإلهي ، تعلم أنها رزق فلان في وقت كذا . [ ص: 55 ]

ثم انظر إلى المعادن لحاجات الفقير إلى المصالح ، فمنها مودع كالرصاص والحديد ، ومنها مصنوع بسبب غيره كالأرض السبخة يجمع فيها ماء المطر فيصير ملحا .

وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائر وماش وإلهامها ما يصلحها .

وانظر إلى بعد ما بين السماء والأرض كيف ملأ ذلك الفراغ هواء لتستنشق منه الأرواح ، وتسبح الطير في تياره إذا طارت .

وانظر بفكرك إلى سعة البحر وتسخير الفلك فيه ، وما فيه من دابة .

قال يحيى بن أبي كثير : خلق الله ألف أمة ، فأسكن ستمائة في البحر وأربعمائة في البر .

واعجبا لك لو رأيت خطا مستحسن الرقم لأدركك الدهش من حكمة الكاتب ، وأنت ترى رقوم القدرة ولا تعرف الصانع ، فإن لم تعرفه بتلك الصنعة فتعجب كيف أعمى بصيرتك مع رؤية بصرك !

التالي السابق


الخدمات العلمية