[ ص: 184 ] المجلس الخامس عشر
في قصة سيدنا موسى عليه السلام
الحمد لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجارى ، ولا شريك له فيدارى ، ولا معترض له فيمارى ، بسط الأرض قرارا وأجرى فيها أنهارا ، وأخرج زرعا وثمارا ، وأنشأ ليلا ونهارا ، خلق آدم وأسكنه الجنة دارا ، فغفل عن النهي وما دارى ، أمر أن يأخذ يمينا فأخذ يسارا ، وأهبط فقيرا قد عدم يسارا غير أنه جبر منه بقبول توبته انكسارا ، وأقامه خليفة ويكفيه افتخارا ، ثم ابتعث الأنبياء من ذريته ونصب لهم من أدلته منارا ، وجعل
إدريس ونوحا والخليل رؤوسا
وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا .
أحمده سرا وجهارا ، وأصلي على رسوله
محمد الذي أصبح وادي النبوة برسالته معطارا ، وعلى صاحبه
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر المنفق سرا وجهارا ، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر الفاروق الذي لاث عن وجهه الإسلام خمارا ، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان الذي صرف على جيش العسرة بإنفاقه إعسارا ، وعلى
nindex.php?page=showalam&ids=8علي أخيه وابن عمه الذي لا يتمارى ، وعلى عمه
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس أبي الخلفاء ويكفيهم افتخارا .
قال الله عز وجل : وهل أتاك حديث موسى هل بمعنى قد ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم هل بلغت .
وموسى : هو ابن عمران بن قاهث ابن لاوي بن يعقوب ، واسم أمه
يوخابذ وبين
موسى وإبراهيم ألف سنة ، وكانت الكهنة قد قالوا لفرعون : يولد مولود من
بني إسرائيل يكون هلاكك على يده فأمر بذبح أبنائهم ثم شكت القبط إلى فرعون فقالوا إن دمت على الذبح لم يبق لنا من
بني إسرائيل من يخدمنا ، فصار يذبح سنة ويترك سنة ، فذبح سبعين ألف مولود ، وولد
هارون في السنة التي لا يذبح فيها ، وولد
موسى في السنة التي يذبح فيها ، فولدته أمه وكتمت أمره فدخل الطلب إلى بيتها فرمته في التنور ، فسلم ، فخافت عليه فصنعت له تابوتا وألقته في اليم ، فحمله الماء إلى أن ألقاه إلى فرعون ، فلما فتح التابوت نظر إليه فقال : عبراني من الأعداء كيف أخطأه الذبح ؟
فقالت آسية : دعه يكون قرة عين لي ولك ، وكان لا يولد لفرعون إلا البنات ، فتركه . [ ص: 185 ] ولما رمته أمه أدركها الجزع فقالت لأخته
مريم قصيه ، فدخلت دار فرعون ، وقد عرضت عليه المرضعات فلم يقبل ثديا ، فقالت :
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم فجاؤوا بأمه فشرب منها ، فلما تم رضاعه ردته إلى فرعون فأخذه يوما في حجره فمد يده للحيته فقال : علي بالذباح فقالت
آسية : إنما هو صبي لا يعقل ، وأخرجت له ياقوتا وجمرا فأخذ جمرة فطرحها في فيه فأحرقت لسانه فذلك قوله :
واحلل عقدة من لساني .
فلما كبر كان يركب مراكب فرعون ويلبس ملابس فرعون ،
فلما جرى القدر بقتل القبطي وعلموا أنه هو القاتل خرج عنهم فهداه الله إلى مدين ، فسقى لبنتي شعيب واسمهما صفورا وليا ، فاستدعاه شعيب وزوجه صفورا ، ثم خرج بزوجته يقصد أرض
مصر فولدت له في الطريق فقال لأهله :
امكثوا أي أقيموا
إني آنست نارا أي أبصرت ، وإنما رأى نورا ، ولكن وقع الإخبار بما كان في ظنه ، والقبس : ما أخذته من النار في رأس عود أو فتيلة
أو أجد على النار هدى وكان قد ضل الطريق فعلم أن النار لا تخلو من واقد .
أخبرنا
محمد بن أبي منصور ، أنبأنا
جعفر بن أحمد ، أنبأنا
أبو علي التميمي ، أنبأنا
nindex.php?page=showalam&ids=15018أبو بكر أحمد بن جعفر ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16408عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا
إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثنا
عبد الصمد بن مغفل ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه ، قال : لما رأى
موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا ، فوقف ينظر لا يدري ما يصنع أمرها ، إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحرق أوقد إليها موقد فنالها فاحترقت ، وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة ما بها ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه ، فلما طال ذلك عليه أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس فمالت نحوه كأنها تريده ، فاستأخر ثم عاد ، فلم يزل كذلك فما كان بأوشك من خمودها فتعجب وقال إن لهذه النار لشأنا ، فوقف متحيرا فإذا بخضرتها قد صارت نورا عمودا ما بين السماء والأرض ، فاشتد خوفه وكاد يخالط في عقله من شدة الخوف ، فنودي من الشجرة :
يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه فقال : لبيك من
[ ص: 186 ] أنت ، أسمع صوتك ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فآمن به فقال : كذلك أنت يا إلهي ، فكلامك أسمع أم كلام رسولك فقال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني ، فجمع موسى يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فارتعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه ولم يبق منه عظم يحمل الآخر ، وهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة فقال له الرب تعالى :
وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي قال : وما تصنع بها ؟ قال :
أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى وكانت لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين
قال ألقها يا موسى فظن أنه يقول له ارفضها فألقاها على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظر يدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيقتلعها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجذبها ، وعيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك ، وعادت الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف ، فلما عاين
موسى ولى مدبرا ، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه عز وجل فوقف استحياء منه .
ثم نودي : يا
موسى إلي فارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف فقال :
خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى وعلى
موسى حينئذ مدرعة من صوف قد خللها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ثنى طرف المدرعة على يده فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله عز وجل لما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها في في الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يداه في الموضع الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين ، فقال الله عز وجل : ادن فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، ثم جمع يديه في العصا وخشع برأسه وعنقه ثم قال له : إني قد أقمتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ، أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي ، فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري ، فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد دوني
[ ص: 187 ] وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته وإن أمرت البحار غرقته ، ولكن هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي ، وحق لي ، إني أنا الله الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالاتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي والإخلاص باسمي ، وذكره بأيامي وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أني أنا الغفور والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يرعك ما ألبسه من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ، ليس يطرف ولا ينطق ولا يتكلم ولا يتنفس إلا بإذني ، قل له : أجب ربك عز وجل فإنه واسع المغفرة ، وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة وفي كلها أنت مبارز بمحاربته تشبه وتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم يغلب ، ولو شاء أن يعجل ذلك لك أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة وحلم ، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني ، تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبكما زينته وما متع به ولا تمدان إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ، فإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما آتيتكما فعلت ، ولكن أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديما ما خرت لهم في ذلك فإني أذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة ، وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفه الهوى .
واعلم أنه
لم يتزين العباد بزينة أبلغ من الزهد في الدنيا ، وإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك .
واعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم بي ؟ أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني ؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ فكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري .
قال : فأقبل
موسى إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها والأسد فيها مع ساستها إذا أسدتها على أحد أكل ، وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ،
[ ص: 188 ] فأقبل
موسى من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب ، فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون ، فأقبل
موسى حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل ، فلما رآه البواب عجب من جرأته ، فتركه ولم يأذن له وقال : هل تدري باب من أنت تضرب ! إنما تضرب باب سيدك ! فقال : أنا وأنت وفرعون عبيد الله عز وجل وأنا ناصره ، فأخبر البواب الذي يليه حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونهم سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله عز وجل كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال أدخلوه علي ، فأدخل فقال له فرعون : أعرفك ، قال : نعم .
قال :
ألم نربك فينا وليدا ، فردد موسى عليه السلام الذي ذكره الله عز وجل في القرآن ، فقال : خذوه .
فبادرهم
موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، فحملت على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت وقال
لموسى : اجعل بيني وبينك أجلا ننظر فيه ، فقال موسى : لم أومر بذلك وإنما أمرت بمناجزتك ، فإن أنت لم تخرج إلي دخلت عليك .
فأوحى الله تعالى إلى
موسى : أن اجعل بينك وبينه أجلا ، وقل له يجعله هو ، فقال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ، ففعل ، وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة . قال : وخرج
موسى فلما مر بالأسد مضغت بأذنابها وسارت مع
موسى تشيعه ولا تهيجه .
قال علماء السير :
قال له فرعون إن كنت جئت بآية فأت بها فألقى العصا ثم أخرج يده وهي بيضاء لها نور كالشمس ، فبعث فرعون فجمع السحرة وكانوا سبعين ألفا ، وكان رؤوسهم سابور وعازور وحطحط ومصفى ، وهم الذين آمنوا ، فجمعوا حبالهم وعصيهم وتواعدوا يوم الزينة وكان عيدا لهم فألقوا يومئذ ما معهم ، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي فألقى
موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا ، فسجدت السحرة فقتلهم فرعون .
ثم جاء الطوفان وهو مطر أغرق كل شيء لهم ، ثم الجراد فأكل زرعهم ، والقمل وهو الدبا ، والضفادع فملأت البيوت والأواني ، والدم فكان الإسرائيلي يستقي ماء ويستقي القبطي من ذلك الموضع دما ، فمكث
موسى يريهم هذه الآيات عشرين سنة .