وأما استدلالهم بقوله تعالى :
إنا جعلناه قرآنا عربيا ( الزخرف : 3 ) ، فما أفسده من استدلال ! فإن ( جعل ) إذا كان بمعنى خلق يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى :
وجعل الظلمات والنور ( الأنعام : 1 ) ، وقوله تعالى :
وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ( الأنبياء : 30 - 31 ) . وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق ، قال تعالى :
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ( النحل : 91 ) . وقال تعالى :
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ( البقرة : 224 ) . وقال تعالى :
الذين جعلوا القرآن عضين ( الحجر : 91 ) وقال تعالى :
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( الإسراء : 29 ) وقال تعالى :
ولا تجعل مع الله إلها آخر ( الإسراء : 39 ) . وقال تعالى :
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ( الزخرف : 19 ) . ونظائره كثيرة . فكذا قوله تعالى
إنا جعلناه قرآنا عربيا ( الزخرف : 3 ) .
وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى :
نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ( القصص : 30 ) . على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه
موسى منها ! وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها ، فإن الله تعالى قال :
فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن ، والنداء هو الكلام من بعد ، فسمع
موسى عليه السلام
[ ص: 183 ] النداء من حافة الوادي ، ثم قال :
في البقعة المباركة من الشجرة . أي : إن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما يقول سمعت كلام زيد من البيت ، يكون من البيت لابتداء الغاية ، لا أن البيت هو المتكلم ! ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة ، لكانت الشجرة هي القائلة :
ياموسى إني أنا الله رب العالمين . وهل قال :
إني أنا الله رب العالمين ، غير رب العالمين ؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون :
أنا ربكم الأعلى ( النازعات : 24 ) صدقا ، إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله ! وقد فرقوا بين الكلامين على أصولهم الفاسدة : أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون ! ! فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله . وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد ، إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : فقد قال تعالى :
إنه لقول رسول كريم ( الحاقة : 40 ، والتكوير : 19 ) . وهذا يدل على أن الرسول أحدثه ، إما
جبرائيل أو
محمد .
قيل : ذكر الرسول معرف أنه مبلغ عن مرسله ، لأنه لم يقل أنه قول ملك أو نبي ، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأه من جهة نفسه . وأيضا : فالرسول في إحدى الآيتين
جبريل ، وفي الأخرى
محمد ، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر .
[ ص: 184 ] وأيضا : فقوله رسول أمين ، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به ، يبلغه عن مرسله . وأيضا : فإن الله قد كفر من جعله قول البشر ،
ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر ، فمن جعله قول
محمد ، بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر . ولا فرق بين أن يقول : إنه قول بشر ، أو جني ، أو ملك ، والكلام كلام من قاله مبتدئا ، لا من قاله مبلغا . ومن سمع قائلا يقول :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
- قال : هذا شعر
امرئ القيس ، ومن سمعه يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964240إنما الأعمال بالنيات [ ص: 185 ] وإنما لكل امرئ ما نوى : قال : هذا كلام الرسول ، وإن سمعه يقول :
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا
كلام الله ، إن كان عنده خبر ذلك ، وإلا قال : لا أدري كلام من هذا ؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذبه . ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا ، يقول له : هذا كلام من ؟ هذا كلامك أو كلام غيرك ؟