وأما استدلال
المعتزلة بقوله تعالى :
قال لن تراني ( الأعراف : 143 ) ، وبقوله تعالى :
لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) . فالآيتان دليل عليهم :
[ ص: 213 ] أما الآية الأولى : فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه : أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته - أن يسأل ما لا يجوز عليه ، بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل
نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله ، وقال :
إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( هود : 46 ) .
الثالث : أنه تعالى قال :
لن تراني ، ولم يقل : إني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي . والفرق بين الجوابين ظاهر . ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال : أطعمنيه ، فالجواب الصحيح : أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاما صح أن يقال : إنك لن تأكله . وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن
موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى . يوضحه :
الوجه الرابع : وهو قوله :
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) . فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار ، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟
الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا ، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ، ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام . والكل عندهم سواء .
السادس :
قوله تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ( الأعراف : 143 ) ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته ؟ ولكن
[ ص: 214 ] الله تعالى أعلم
موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار ، فالبشر أضعف .
السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز . ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه ، وقد جمعوا بينهما . وأما دعواهم تأييد النفي بـ ( ( لن ) ) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ، ففاسد ، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة ، فكيف إذا أطلقت ؟ قال تعالى :
ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ، مع قوله :
ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ( الزخرف : 77 ) . ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى :
فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ( يوسف : 80 ) . فثبت أن ( ( لن ) ) لا تقتضي النفي المؤبد .
قال الشيخ
جمال الدين بن مالك رحمه الله تعالى :
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو : أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم ، المتضمن كمال القيومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء ، المتضمن كمال القدرة ،
[ ص: 215 ] ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير ، المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره ، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه ، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم ، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه ، المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل ، المتضمن لكمال ذاته وصفاته . ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه ، فإن المعنى : أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به ، فقوله :
لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) ، يدل على كمال عظمته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى :
فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا ( الشعراء : 61 - 62 ) ، فلم ينف
موسى الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية ، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية . بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه .