قوله : ( ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم . وهو كلام الله تعالى ، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ، ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين ) .
ش : فقوله
ولا نجادل في القرآن ، يحتمل أنه أراد : أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، بل نقول : إنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، إلى آخر كلامه .
ويحتمل أنه أراد : أنا لا نجادل في القراءة الثابتة ، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح . وكل من المعنيين حق . يشهد بصحة المعنى الثاني ، ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964362سمعت رجلا قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها ، فأخذت بيده ، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فعرفت في وجهه الكراهة ، وقال : كلاكما محسن ، لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه
مسلم .
نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين
[ ص: 429 ] ما مع صاحبه من الحق ، لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه ، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا . ولهذا قال
حذيفة رضي الله عنه ،
لعثمان رضي الله عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964363أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم . فجمع الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا . وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ، ولا فعل لمحظور ، إذ كانت
قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ، رخصة من الله تعالى ، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه .
كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا . ولهذا كان ترتيب مصحف
عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني ، وكذلك مصحف غيره . وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية ، بخلاف السور ، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد ، جمعهم
[ ص: 430 ] الصحابة عليه . هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره .
منهم من يقول : إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم ، وهو أوفق لهم - : أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة .
وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف يشتمل على الأحرف السبعة لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة . وقد اتفقوا على نقل
المصحف العثماني . وترك ما سواه . وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب ، وهو : أن ذلك كان جائزا لا واجبا ، أو أنه صار منسوخا .
وأما من قال عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : إنه كان يجوز القراءة بالمعنى ! فقد كذب عليه ، وإنما قال : قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم : هلم ، وأقبل ، وتعال ، فاقرءوا كما علمتم . أو كما قال .
والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل
أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
[ ص: 431 ] إلا الذين ظلموا منهم ، فكيف بمناظرة
أهل القبلة ؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب ، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن ، وليس إذا أخطأ يقال : إنه كافر ، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها . والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . ولهذا ذم السلف أهل الأهواء ، وذكروا أن آخر أمرهم السيف . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا .
وقوله : ونشهد أنه كلام رب العالمين ، قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله : وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا .
وقوله : نزل به
الروح الأمين هو جبريل عليه السلام ، سمي روحا لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو أمين حق أمين ، صلوات الله عليه . قال تعالى :
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ ص: 432 ] [ الشعراء : 193 - 195 ] . وقال تعالى :
إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [ التكوير : 19 - 21 ] . وهذا وصف
جبريل . بخلاف قوله تعالى :
إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر [ الحاقة : 40 - 41 ] الآيات . فإن الرسول هنا هو
محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فعلمه سيد المرسلين ، تصريح بتعليم
جبريل إياه ، إبطالا لتوهم
القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاما .
وقوله : ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين ، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين ، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن
القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق ، بل قوله : ولا نخالف جماعة المسلمين ، مجرى على إطلاقه : أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة .