ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان : اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد :
واختلاف التنوع على وجوه :
منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964589كلاكما محسن .
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل .
ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك ! وهذا عين المحرم . وكذا تجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه - : ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 779 ] ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك . ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى والاعتداء على قائلها ! ونحو ذلك .
وأما
اختلاف التضاد ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإما في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد . والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما ، أو معه دليل يقتضي حقا ما ، فيرد الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض ، كما كان الأول مبطلا في الأصل ، وهذا يجري كثيرا لأهل السنة .
وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر . ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور .
والاختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه . وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى :
[ ص: 780 ] ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله [ الحشر : 5 ] . وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون .
وكما في قوله تعالى :
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 - 79 ] فخص
سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم .
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم
بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى
بني قريظة .
[ ص: 781 ] وكما في قوله : إذا
nindex.php?page=hadith&LINKID=964590اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ونظائر ذلك .
والاختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمت الأخرى ، كما في قوله تعالى :
ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر [ البقرة : 253 ] .
وقوله تعالى :
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآيات .
[ ص: 782 ] وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة - من القسم الأول ، وكذلك إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء . لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك . ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله :
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم [ البقرة : 213 ] . لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة .
[ ص: 783 ] وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين ، عن
أبي الزناد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964591ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .
فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية .