ثم الاختلاف في الكتاب ، من الذين يقرون به - على نوعين :
أحدهما اختلاف في تنزيله .
والثاني اختلاف في تأويله . وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض .
فالأول كاختلافهم في
تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم
[ ص: 784 ] بمشيئته وقدرته . وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
وأما الاختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير ، كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964592خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر ، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية ، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا وكلتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا . وفي رواية : يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به . وفي رواية :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964593فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا ، وإن المراء في القرآن كفر . وهو حديث مشهور ، مخرج في المساند والسنن .
وقد روى أصل الحديث
مسلم في صحيحه ، من حديث
عبد الله بن رباح الأنصاري ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964594هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا [ ص: 785 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب .
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله ، مؤمنون ببعضه دون بعض ، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات ، وما يخالفه : إما أن يتأولوه تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه ، وإما أن يقولوا : هذا متشابه لا يعلم أحد معناه ، فيجحدون ما أنزله الله من معانيه ! وهو في معنى الكفر بذلك ، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى :
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] . وقال تعالى :
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني [ البقرة : 78 ] أي : إلا تلاوة من
[ ص: 786 ] غير فهم معناه . وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به ، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله ، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ، فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم .