( ( فصل ) )
في ذكر
الصفات التي يثبتها لله تعالى أئمة السلف ، وعلماء الأثر دون غيرهم من علماء الخلف وأهل الكتاب فضلا عن فرق أهل الزيغ والفساد ، وأساطين
الفلاسفة ، وأهل الإلحاد ، ولما كان في إثبات هذه الصفات ما يبدر للعقول الفلسفية ، والأقيسة الكلامية ، والأخيلة الخلفية ما يوهم التجسيم قدم أمام المقصود ما ينفي ذلك بقوله :
( ( وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم تعالى ذو العلى ) )
( ( سبحانه قد استوى كما ورد من غير كيف قد تعالى أن يحد ) )
( ( وليس ربنا ) ) تبارك وتعالى ( ( بجوهر ) ) يراد به ما قابل العرض ويراد به ما في اصطلاح أهل الكلام يعني العين الذي لا يقبل الانقسام لا فعلا ، ولا وهما ، ولا فرضا ، وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، وعند الفلاسفة وبعض
[ ص: 182 ] محققي النظار لا وجود للجوهر الفرد ، أعني الجزء الذي لا يتجزأ ، وإليه ميل
شيخ الإسلام ابن تيمية .
قال المثبتون للجوهر الفرد بأنه لا شكل له لأن الشكل هيئة إحاطة الحد الواحد ، فلو كان له شكل لكان محاطا لحد أو حدود وحينئذ يلزم انقسامه ، لأن ما يلاقى منه بجزء من المحيط يغاير الملاقى بآخر ، وهو الانقسام لأنا لا نعني بالتقسيم إلا ما يفرض فيه شيء غير شيء ، فلا يكون ما فرضناه جوهرا فردا ، وإذا لم يكن له شكل امتنع أن يكون مشاكلا لشيء ، لأن المشاكلة هي الاتحاد في الشكل وليس للجوهر الفرد شكل كما علمت .
ولسنا بصدد تقريره ولا إبطاله وإنما نحن بصدد
نفي كون الباري جل شأنه جوهرا ( ( ولا ) ربنا جل شأنه وتعالى سلطانه ب ( ( عرض ) ) وهو ما لا يقوم بذاته بل بغيره ، بأن يكون تابعا لذلك الغير في التحيز أو مختصا به اختصاص النعت بالمنعوت ، لا بمعنى أنه لا يمكن تعقله بدون المحل كما قد يتوهم فإن ذلك إنما هو في بعض الأعراض ( ( ولا ) ) هو سبحانه : ( ( جسم ) ) وهو ما تركب من جزئين فصاعدا
وعند بعض
[ ص: 183 ] النظار لا بد من تركبه من ثلاثة أجزاء لتتحقق الأبعاد الثلاثة أعني الطول والعرض والعمق ، وعند البعض من ثمانية ليتحقق تقاطع الأبعاد على زوايا قائمة ، قال
السعد : وليس هذا نزاعا راجعا إلى الاصطلاح حتى يدفع بأن
[ ص: 184 ] لكل واحد أن يصطلح على ما شاء ، بل هو نزاع في أن المعنى الذي وضع لفظ الجسم بإزائه هل يكفي فيه التركيب من جزئين أم لا ؟ احتج الأولون بأنه يقال لأحد الجسمين إذا زيد عليه جزء واحد أنه أجسم من الآخر
[ ص: 185 ] فلولا أن مجرد التركيب كاف في الجسمية ، لما صار بمجرد زيادة الجزء أزيد في الجسمية . وفيه أنه أفعل من الجسامة بمعنى الضخامة وعظم المقدار ، يقال جسم الشيء إذا عظم هو جسيم ، والكلام في الجسم الذي هو
[ ص: 186 ] اسم لا صفة ، انتهى .
وقال
الكرماني في شرح الجواهر : الجسم يطلق بالاشتراك على معنيين ، الأول : الجسم الطبيعي المنسوب إلى الطبيعة التي هي مبدأ الإثارة ، وعرفه الحكماء بأنه جوهر يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة
[ ص: 187 ] متقاطعة على زوايا قائمة ، فقوله " يمكن " مشعر بأن مناط الجسمية ليس فرض الأبعاد بالفعل حتى يخرج الجسم عن الجسمية بأن لا يفرض فيه الأبعاد بالفعل بل مجرد إمكان الفرض ، وإن لم تفرض أصلا كاف ، وتصوير فرض
[ ص: 188 ] الأبعاد في الجسم بعد تأليف ما كان ، وهو الطول ، وبعد آخر مقاطع له على زوايا قائمة وهو العرض ، وبعد آخر مقاطع لهما كذلك وهو العمق ، فقوله على زوايا قائمة ليس للاحتراز بل بيان الواقع ، فإن حقيقة الجسم لا يكون
[ ص: 189 ] إلا كذلك .
ولما نفى كون الباري جل وعز جوهرا أو عرضا أو جسما ؛ لاتصاف الأول بالإمكان والحقارة ، والثاني لاحتياجه إلى محل يقوم به ، والثالث لأنه مركب فيحتاج إلى الجزء فلا يكون واجبا لذاته ولا مستغنيا عن غيره ، وفي ضمن ما نفاه رد على بعض فرق الضلال من المجسمة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في صدر هذا الكتاب ، أعقب ذلك بقوله ( ( تعالى ) ) وتقدس ( ( ذو العلى ) ) في ذاته وصفاته القدسية عما يقول الظالمون علوا كبيرا .