ثم ذكر من صفات الله التي يثبتها السلف دون غيرهم عدة وبدأ بصفة الوجه له تعالى فقال : ( ( كوجهه ) ) أي
من الصفات الثابتة له تعالى صفة الوجه إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد ، وهذا الذي نقل
الخطابي وغيره أنه مذهب السلف والأئمة الأربعة ، وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي
[ ص: 226 ] الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فإذا كان إثبات الذات وجودا لا إثبات تكييف ، فكذلك إثبات الصفات ، وقالوا : إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين ، لاحتمال أن يكون المراد غيره لأنه مأخوذ بالظن والتخمين ، لا بالقطع واليقين ، فلا نبني اعتقادنا عليه ، ولا نرجع عن النص الثابت إليه
فإن هذا عند السلف مذموم وناهج هذا المنهج معيب ملوم ، قال بعض المحققين :
صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت ، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد ، فالمؤمن مبصر بها من وجه أعمى من وجه ، مبصر من حيث الإثبات والوجود ، أعمى من حيث التكييف والتحديد ، قال الله تعالى في محكم كتابه
ويبقى وجه ربك -
فأينما تولوا فثم وجه الله -
إنما نطعمكم لوجه الله -
كل شيء هالك إلا وجهه وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026111من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، وفي آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026112أعوذ بوجهك الكريم ، والأحاديث كثيرة شهيرة .
قال أهل التأويل : المراد بالوجه الذات المقدسة ، فأما كونه صفة الله فلا ، وهو قول
المعتزلة ، وجمهور المتكلمين ، وزعموا أنه يروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : الوجه عبارة عنه عز وجل ، كما قال (
ويبقى وجه ربك ) .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك : قد تذكر صفة الشيء ويراد بها الموصوف توسعا كما يقول القائل رأيت علم فلان ، ونظرت إلى علمه ، والمراد نظرت إلى العالم . وقال
القرطبي : قال
الحذاق : الوجه راجع إلى الوجود والعبارة عنه بالوجوه من مجاز الكلام ، إذا كان الوجه أظهر الأعضاء في المشاهدة .
ومذهب السلف الأول ، والرعيل الذي عليه المعول أن الوجه صفة ثابتة لله تعالى ، ورد بها السمع فتتلقى بالقبول . ويبطل مذهب أهل التأويل ما قاله الإمام الحافظ
البيهقي ،
والخطابي في قوله تعالى
ويبقى وجه ربك فأضاف الوجه إلى الذات ، وأضاف النعت إلى الوجه ، فقال ( ذو الجلال ) ولو كان ذكر الوجه ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال ، فلما قال ذو الجلال علمنا أنه نعت للوجه صفة للذات .
وقال علماؤنا : قد ثبت في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع من
[ ص: 227 ] الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات ، فأما الحيوان فذلك مشهور حقيقة لا يمكن دفعه ، وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا ، لأنه يقال : فلان وجه القوم لا يراد به ذات القوم ، إذ ذوات القوم غيره قطعا ، ويقال : هذا وجه الثوب لما هو أجوده ، ويقال : هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه ، ويقال : أتيت بالخبر على وجهه أي حقيقته - إلى غير ذلك مما يقال فيه الوجه .
فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة ، وجب أن يحمل الوجه في حق الباري على وجه يليق به ، وهو أن يكون صفة زائدة على تسمية قولنا ذات
فإن قيل : يلزم أن يكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية وهو باطل ، فالجواب هذا لا يلزم لأن ما توهمه المعترض ، إنما هو بالإضافة إلى ذات الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ، ولكن من جهة نسبة الوجه إلى جملة الذات ، فيما ثبت لها من الماهية المركبة ، وذلك أمر مدرك بالحس في جملة الذات ، فكانت الصفات الحادثة مساوية للذات المحدثة ، بطريق كونها منها ، ومنتسبة إليها نسبة الجزء من الكل ، فأما الوجه ( المضاف - 1 ) للباري تعالى ينسب إليه نسبة الذات إليه ، وقد ثبت أن الذات في حق الباري ، لا توصف بأنهم جسم مركب تدخله الكمية وتتسلط عليها الكيفية ، ولا نعلم لها ماهية ، فصفته تعالى التي هي الوجه كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ، ولا يوقف لها على كيفية ، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية ، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما ، والله تعالى منزه عن ذلك
ولو جاز هذا الاعتراض في الوجه لقيل بمثله في السمع والبصر والقدرة والعلم ونحوها ، فإن العلم في حق المخلوق في الشاهد عرض قائم بقلب يثبت بطريق ضرورة أو اكتساب مشارك في إثبات ماهية أو كمية أو كيفية .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري : لله تعالى وجه بلا كيف كما قال : (
ويبقى وجه ربك ) ، قال : ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر بن الباقلاني : فإن قال قائل : فما الدليل على أن لله تعالى وجها ؟ قيل له : قوله تعالى
ويبقى وجه ربك وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990الإمام أبو حنيفة :
وله تعالى يد ووجه ونفس .
فما ذكر
[ ص: 228 ] الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ، وقد روى
مسلم في صحيحه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه في سننه حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026113إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
قال
الإمام النووي : معناه أنه تعالى لا ينام ، وأنه مستحيل في حقه النوم ، فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وسبحات وجهه نوره وبهاؤه وجلاله ، بضم السين المهملة والباء الموحدة ، وقيل سبحات الوجه محاسنه ، لأنه يقال سبحان الله عند رؤيتها ، وأصل الحجاب في اللغة المنع والستر ، والمراد به هنا المانع من رؤيته ، وسمي ذلك المانع نورا لأنه يمنع في العادة من الإدراك كشعاع الشمس .
قال : والمراد بالوجه الذات ، والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات ، لأن بصره تعالى محيط بجميع الكائنات إلخ كلامه ، وقوله : المراد بالوجه الذات يعني على طريقة الخلف ، وقالوا في قوله تعالى
فأينما تولوا فثم وجه الله أي فثم رضاه وثوابه ، وقالوا في قوله
إنما نطعمكم لوجه الله أي لرضاه وطلب ثوابه ، وقيل فثم الله والوجه صلة .
وقيل : المراد بالوجه في قوله تعالى
فثم وجه الله الجهة التي وجهنا الله إليها أي القبلة ، والحق الحقيقي مذهب سلف الأمة وما عليه الأئمة من إثبات الوجه ونحوه .