واعلم أن أنواع الهداية أربعة : أحدها : الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في
قوله - تعالى - : الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره ، وأعطى كل عضو شكله وهيئته ، وأعطى كل موجود خلقه المختص به ، ثم هداه إلى ما خلقه له من أعمال ، وهذه الهداية تعم هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ، ودفع ما يضره ، وهداية الجماد المسخر لما خلق له ، فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به ، وإن اختلفت أنواعها وضروبها ، وكذلك لكل عضو هداية تليق به ، فالرجلان للمشي ، واليدان للبطش والعمل ، واللسان للكلام ، والأذن للاستماع ، والعين لكشف المرئيات ، وكل عضو لما خلق له ، وهدى الزوجين من كل حيوان للازدواج والتناسل وتربية الولد ، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه . ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو ، فتبارك الله رب العالمين ، وقد هدى النحل إلى أن تتخذ من الجبال بيوتا ، ومن الشجر ، ومن الأبنية ، ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ، ثم تأوي إلى بيوتها ، وهداها إلى طاعة يعسوبها ، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصفة المحكمة البناء ، ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم .
[ ص: 335 ] النوع الثاني :
هداية البيان ، والدلالة ، والتعريف لنجدي الخير ، والشر ، وطريقي الهلاك ، والنجاة ، وهذه لا تستلزم الهدى التام ، فإنها سبب وشرط لا موجب ; ولهذا ينتفي الهدى معها كقوله - تعالى - :
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى أي : بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ، ومنها قوله - تعالى - :
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الثالث :
هداية التوفيق والإلهام ، المستلزمة للاهتداء ، التي ذكرناها آنفا . الرابع : غاية هذه الهداية ، وهي الهداية إلى الجنة ، والنار إذا سيق أهلهما إليهما ، قال - تعالى - :
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم وقال أهل الجنة فيها :
الحمد لله الذي هدانا لهذا وقال - تعالى - عن أهل النار :
احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وتفاصيل أنواع الهداية وأسبابها ومتعلقاتها كثيرة جدا ، ذكرها الإمام المحقق
ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد ، وقد لخصت لك منه ما لعله يحصل به أصل المقصود ، والله أعلم .
تنبيه :
المشهور عند المعتزلة ومن مذهبهم - أن الهداية هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، فإن لم تكن موصلة إلى المطلوب فليست بهداية عندهم ، وعند أهل الحق أن الهداية مجرد الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب ، سواء حصل الوصول ، والاهتداء ، أو لم يحصل ، كما ذكرنا ذلك في النوع الثاني من أنواع الهداية ، وقوله - تعالى - :
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وبالله التوفيق . ( ( وإن يرد ) ) الله - سبحانه وتعالى - ( ( ضلال عبد ) ) من خلقه بترك المأمور وارتكاب المحظور ( ( يعتدي ) ) بارتكاب ذلك وانتهاك المحارم واقتحام المهالك ، والضلال ضد الهدى ، يقال عدا عدوا وعدوانا محركة ، وتعدى وأعدى ، أحضر وعدا عليه عدوانا بالظلم ، ظلمه كعدى واعتدى . قال
الإمام ابن القيم في شرح منازل السائرين : إن العدوان أن يعتدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم ، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه ، إما أن يعتدي على ماله ، أو بدنه ، أو عرضه ، فإذا أتلف إنسان عليه شيئا أتلف عليه أضعافه ، وإذا قال فيه كلمة ، قال فيه أضعافها ، فهذا كله عدوان وتعد للعدل . قال : وهو نوعان : عدوان في
[ ص: 336 ] حق الله - تعالى ، وعدوان في حق العبد ، فالذي في حق الله كما إذا تعدى ما أباح له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات ، إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال - تعالى - :
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وكذلك لو تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها ، كوطئها في حيضها ، أو نفاسها ، أو في إحرام أحدهما ، أو صيامه الواجب ، وكذا كل ما أبيح له منه قدر معين ، فتعداه إلى ما هو أكثر منه ، فهو من العدوان ، وكذلك العدوان في حق العبد تجاوز القدر الذي أبيح له منه ، فمتى تجاوز القدر المحدود كان معتديا وباغيا وظالما ، فارتكاب الإثم ، والعدوان ، والفحشاء ، والمنكر ، والخطايا ، والذنوب من الضلال ، ومن أعظمها القول على الله بلا علم ، فهو أشد المحرمات تحريما وأعظمها إثما ; ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة ، ومن مراتب المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع ، والأديان ، ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وهي المذكورة في قوله - تعالى - :
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وفي قوله - تعالى - :
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا الآيات ، والحاصل أن الله - تعالى - إذا شاء هداية عبده يهتدي ، وإذا أراد ضلاله وهلاكه يعتدي ، فهو - سبحانه - الموفق لمن أراد له السعادة ، والخاذل من شاء إبعاده ، فالتوفيق والخذلان من الحكيم المنان .
قال
الإمام ابن القيم في شرح منازل السائرين : قد أجمع العارفون بالله أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك ، والخذلان أن يخلي بينك وبينها ، فالعباد متقلبون بين توفيقه وخذلانه ، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا ، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه ، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له ، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه ، فإن وفقه فبفضله ورحمته ، وإن خذله فبعدله وحكمته ، وهو - تعالى - المحمود في هذا وهذا ، له أتم حمد وأكمله ، ولم يمنع العبد شيئا هو له ، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه ، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله . فإذا علم العبد هذا المقام وشهده وأعطاه حقه ؛ علم ضرورته ، وفاقته إلى التوفيق والهداية في كل نفس ولحظة وطرفة عين ، وعلم أن توحيده وإيمانه ممسك
[ ص: 337 ] بيد غيره لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرشه ، ولخرت سماء إيمانه على الأرض ، وأن الممسك له من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فدأب هذا المشاهد لهذا المقام أن يقول بقلبه ولسانه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك ، ودعواه : يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك .
ثم قال : والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد ، بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه ، مريدا له ، محبا له ، مؤثرا له على غيره ، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه ، وهذا مجرد فعل ، والعبد محل له ، قال - تعالى - :
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم فهو - سبحانه وتعالى - عليم بمن يصلح لهذا الفضل ، ومن لا يصلح له ، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله ، فلا يمنعه أهله ، ولا يضعه عند غير أهله . ولم يرتض بتفسير التوفيق بأنه خلق الطاعة ، والخذلان خلق المعصية ; لأن ذلك مبني على مذهب الجبر ، وإنكار الأسباب والحكم ، وقابلهم
القدرية ففسروا التوفيق بالبيان العام ، والهدى العام ، والتمكن من الطاعة ، والاقتدار عليها وتهيئة أسبابها ، وهذا حاصل لكل أحد كافر ومشرك بلغته الحجة ، وتمكن من الإيمان ، فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار ، والمؤمنين ، إذ الإقدار ، والتمكين ، والدلالة ، والبيان قد عم به الفريقين ، ولو أفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم ، والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ، لكان ذلك عندهم محاباة وظلما ، والتزموا لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة من العقلاء ، ولم يجدوا بدا من التزامها ، فظهر فساد مذهبهم وتناقضه لمن أحاط به علما ، وتصوره حق تصوره ، وعلم أنه من أردأ مذهب في الدنيا وأبطله ،
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ،
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فأثبتوا القضاء ، والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات ، وأثبتوا الأسباب ، والحكم ، والغايات ، والمصالح ، كما مر ، ونزهوا الله - عز وجل - أن يكون في ملكه ما لا يشاء ، وأن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته ، وأن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ، ومن قال ذلك
[ ص: 338 ] فلم يعرف ربه ولم يثبت له كمال الربوبية ، والتوفيق في اللغة التأليف وجعل الأشياء متوافقة ، ونقل
السعد التفتازاني عن إمام الحرمين أن العصمة هي التوفيق بعينه ، فإن عمت كان توفيقا عاما ، وإن خصت كان توفيقا خاصا ، وأن اللطف هو التوفيق أيضا ، وأن الموفق لا يعصي ، إذ لا قدرة له على المعصية ، كما أن المخذول لا يطيع .
والحاصل أن مذهب السلف على ما قرره الإمام المحقق أن الهداية والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح العبد ، كما تقدم ، ومن أسمائه - تعالى - الهادي ، وهو الذي بصر عباده وعرفهم طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته ، وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في بقائه ودوام وجوبه ، وبالله التوفيق .